لعل عنوان المقالة يختصر الفَـهْم، فداعش اليوم بالفعل يعاني من مرحلة انحسار ديناميكي ليس بسبب حصار الموصل فحسب، وإنما بسبب انحسار الأيدولوجيا التي تغذي ركائز التنظيم؛ فداعش الذي يرتكز على هيكل الخليفة والمبايعة والقتال لم يظهر نجاحا على المدى البعيد؛ وأكد أن الحكومة العراقية رغم ضعفها قادرة على مهاجمة الموصل وقطع الإمداد، مما يرجح نجاح اختراق الأيدولوجيا التي اصطُنعت لزيادة عدد التنظيم.
وما أقصده هنا هو أن ليس أعضاء التنظيم اكتشفوا حقيقة ما فقل حماسهم لمفهوم الدولة الإسلامية فحسب، وإنما أن قلب التنظيم نفسه لم يعد ينبض كما في السابق، ما يدعوني إلى الدعوة للاستعداد لمرحلة ما بعد داعش.
وحتى أبين أهمية هذه المرحلة، فعند رجوعنا قليلا إلى الوراء سنرى كيف أن نشاط جماعة النصرة على سبيل المثال بدأ قويا ثم ضعف تدريجا ممهدا الطريق لجماعة داعش، وداعش اليوم منحسرا قد يمهد الطريق لشيء ما وأكثر دموية. وبذلك فهذه الجماعات في ظني تنشأ لسبب وتنطفئ لسبب، ولكن النشوء والارتقاء يرتكزان دوما على الفراغ السياسي والأمني، فحيثما وجد الفراغ الأمني، تشكلت هذه الجماعات بأسماء مختلفة وبفعل فاعل لتسد هذا الفراغ ولمصلحة ما.
اليوم نحن بصدد فراغ أمني وسياسي كبيرين سيكونان في مناطق شرق سوريا وغرب العراق, وبالتأكيد سيكون من المستحيل بسط الإحكام الأمني التام على هذه المناطق, لأنها ستعيش مراحل انطفاء التنظيمات الحالية, وهذا يعني أن الاعتداءات والاختطافات والجرائم الأمنية والإرهابية ستظل محتملة كما يحدث في بغداد منذ 2005, وذلك لأن أعضاء هذه التنظيمات سيعودون إلى مرحلة ما قبل التشكل ولكن بنفس الفكر المتطرف كما حدث من قبل ممن عادوا من مناطق النزاع حيث قام كثير منهم بعمليات إرهابية داخل السعودية رغم تركهم للتنظيمات ولكن لأن الفكر المتطرف كان على نفس المستوى ولم ينطفئ. وهي صورة أشبهها بمراحل انطفاء النجوم فيزيائيا، فكلما اقترب النجم من الموت، وكلما خفت درجة حرارة سطحه، وكلما خف ضوؤه وبهت لونه كلما اقترب قلب النجم نفسه من الانفجار، والذي سيؤدي بدور انفجار قلب النجم إما لثقب أسود وإما للسوبر نوفا أو النجم الطارق.
وبدورنا، فيجدر بنا الاستعداد بألا نسمح باستغلال الفراغ الأمني والسياسي في مناطق شرق سوريا وغرب العراق، وخصوصا من اليد الإيرانية المقاتلة في سوريا والعراق منذ سنوات، أو حتى من التنظيمات التي تستعد أن تتشكل في مراحل تحورها التالية، وذلك لأن هـذين الفراغين هما عنوان المرحلة المقبلة لمن يريد استقرار العراق تحديدا أو تدميره نتيجة الأهمية الاستراتيجية التي يشغلها غرب العراق. فهو عش الدبابير التي تنطلق يوميا على أجزاء العراق وهو أيضا بوابة الجحيم التي تصدر الشر وتستورده من وإلى الداخل السـوري.
وخلاصة القول: فإن المفاوضات على أمن المنطقة لم يعد ممكنا كما في السابق، فاليوم لا توجد فعليا خريطة عراقية أو سورية ثابتة يمكن أن تُصنع التقديرات حول أدائها السياسي أو الأمني، وإنما متغيرات أصبح يصعب التكهن بها، أما ما يمكن فعله تجاهها فهو أن نكون جزءا من هذه الخريطة المفقودة عبر دعم مقومات الاستقرار فيها، وهي كُثُر..
كاتب وأكاديمي سعودي- الولايات المتحدة