في ذكرى وفاتهم، قليلٌ من الرجال تشعر بأنهم ما زالوا أحياء من حولك، يؤثرون، ويؤثرون، ويبقى لأسمهم لون في الحياة، ولهم ذكر في الذاكرة. نعم، بعض الرجال أكبر من أن يبتلعهم النسيان، ونعم كان من بينهم عبد الله.
ليس السؤال ما الذي نتذكره عن عبد الله بن عبد العزيز، بل ما الذي لا نتذكره؟
وليس السؤال لماذا نتذكر عبد الله بن عبد العزيز، بل لماذا لا نتذكره؟
حلت قبل أسابيع الذكرى الثانية لرحيله، وهي فرصة لتذكر ذلك الدور الفريد الذي لعبه الملك الراحل، ومن خلاله حمى بلاده، وأسهم في تثبيت دعائم الاستقرار فيها، رغم عواصف الربيع العربي، التي أحدثت في المحيط العربي زلزالها، وألقت أثقالها.
كان الملك الراحل يعرف أن لبلاده حجما، ومكانة، وقوة، تجعلها مسؤولة بشكل كبير عن كل ما يجري في المنطقة، فهذه المملكة القارة أكبر من أن تغمض عينيها، وتترك العاصفة تمر، أو تغيب حين تحين حائنة الفعل، دون أن يلاحظها الناس.
كان الدور الذي لعبه في المنطقة كبيراً، وتأثيره كان أكبر.
في الأزمة السورية كان الملك متطلعاً لأن تلعب بلاده دوراً أكبر في منع دمشق من أن تتكلم بالفارسية، وكان حريصا على تحجيم أي دور تركي قد يسلب القطر العربي عروبته، لذلك أصرّ على ألا يكون هنالك أي تدخل في الإقليم السوري عن طريق تركيا، فهذه السلطنة العثمانية لديها حلم قديم، وهناك من يرغب في تجديده.
إن دخلت تركيا حلب لن تخرج بسهولة. هذا ما كان يعرفه الملك جيداً. عندها ستكون المنطقة العربية عرضة لاستعمار جديد، وإن كان بدون الطربوش الأحمر، بل تحت الراية الحمراء. لن يخرج العرب إيران لتدخل تركيا. هذه الفكرة لم تكن مقبولة البتة.
في البلاط الملكي، وعلى أطراف ألسنة المستشارين، كان الهمس واضحاً بأن الملك راغب بحل عربي للمسألة السورية ولكن عن طريق الأردن. كانت القوات السعودية متأهبة، ورغبة القائد القيادي موجودة، لكن الظروف الدولية عمقت الأزمة، وفاقمت من تعقيداتها.
قطع الملك إجازته الخاصة في المغرب حاملاً معه أركان إدارته إلى المملكة، ظناً منه بأن هنالك توافق دولي سيفضي إلى تدخل عسكري، ينهي الأزمة الإنسانية في سوريا، تحت خط أوباما الأحمر. لكن أوباما تراجع، وهذا ما أغضب الملك منه إلى الحد الذي عبر فيه ابن عبد العزيز أمام ضيفه في "روضة خريم" بأن الخط الأحمر لم يكن أحمراً، وان الرياض لن تثق في خطوط الرئيس الحمر مرة أخرى.
هل كانت هذه معركته الأولى مع الإدارة الأميركية للدفاع عن القضايا العربية؟
بالتأكيد لا، فقد سبقها ذلك الصراع الكبير مع إدارة بوش في إطار رغبة الملك دعم القضية الفاسطينية، من خلال رسالة قاسية حملها سفيره الكبير بندر بن سلطان للبيت الأبيض، وكان مفادها إما العدالة للفلسطينيين، أو هذا فراق بيننا.
كانت رسالة شديدة التأثير، وكلف الملك وقتها رجله ومدفعيته الثقيلة خالد التويجري باطلاع المسؤولين السعوديين عليها. بعد الرسالة جاءت أحداث سبتمبر وقلبت المعادلة كليّاً.
إنها الصراحة ذاتها التي جعلته يحدّث أردوغان عن ذلك الاجتماع المقيت في (مشهد) شمال إيران مع خامنئي، وكان الحالمان فُرساً وأتراكاً، يعتقدون أن عواصف الربيع ستقتلع دولة من شبه الجزيرة، ولابد من توافق بينهما لملء الفراغ القريب.
علم السعوديون عن هذا الاجتماع بكافة تفاصيله، ولم يعلم المجتمعان بأن لهذه الأسرة دوراً لم ينقطع منذ ثلاثة قرون، وكانوا المبتدأ والخبر في أرض الجزيرة العربية، ولديهم القدرة على البقاء رغم العواصف. لطالما كانت هذه البلاد على موعد مع اختبارات البقاء، ويشهد التاريخ أنها نجحت فيها كلها. سيمضي أردوغان وخامنئي ذات يوم إلى بيوتهم أو شققهم، لكن عبد الله واخوته وأبنائهم سيظلون ملوكاً، كما كان أجدادهم قبل ثلاثة قرون.
علم عبد الله بن عبد العزيز بأن عملية التغيير الضخمة التي تجري في المنطقة العربية ليست من قبيل الصدفة. قرأ التقارير التي تلخص سيناريوهات التغيير في المنطقة، ولفتته إحدى دراسات برنارد لويس التي كان يدعو من خلالها إلى تقسيم المنطقة إلى جيوب طائفية وعشائرية.
من خلال البحث والتحليل عرف رجال الملك أن لهيلاري علاقة وصلة بهذا الباحث اليهودي الشهير، حتى وإن كانت هذه الصلة مجرد إعجاب، أو تأييد لمشروعه التقسيمي.
خلال زيارتها للمملكة، طلب الملك بفراسة رجل الصحراء، قراءة رد فعل هيلاري على هذه الدراسة، ورأيها في أفكار هذا الباحث التقسيمي. أوصى الملك من أوصاه بأن يسائلها عن برنارد لويس حين يتاح له أن يكون قريباً منها خلال المأدبة الرسمية. كان الملك دائما شديد الملاحظة لكل ما يحدث على الطاولة، ولمح من علامات وجه هيلاري المتغيرة ما جعله يقتنع بأن هذا الربيع ليس بريئاً، وأن هنالك من خلفه، وأن إدارة أوباما راغبة في مزيد من التقسيم لخريطة المنطقة.
لم يكن الملك الراحل من النوع الذي يتخلى عن أصدقاءه، وحلفاء بلاده، وهذا ما فعله مع الرئيس المصري حسني مبارك، ليس لأنه حليف سعودي موثوق فحسب، بل لأنه كان عنصر استقرار في المنطقة، وأحد أركان النظام العربي، والقلعة الأخيرة بعد تآكل بغداد ودمشق.
خاض الملك عبد الله قتالا على كافة الجبهات مع إدارة أوباما. كانت رغبته الأساسية الحفاظ على استقرار مصر في المقام الأول. وفعل كل ما يمكن فعله فيما بعد لدعم أي مشروع يعزز من استقرار الجارة الكبيرة.
حين حاول البعض محو هوية البحرين العربية، كان التدخل الملكي سريعاً، تحدثت فيه الرياض بلغة المدرعات الفاعلة، وبلعت طهران لسانها!
كان من الصعب دوما الفصل بين الإنسان والملك في شخصية الراحل المهيب عبد الله بن عبد العزيز. رغم استياءه من عمل اللجنة الرباعية للسلام التي كان يتولاها توني بلير، تفاجئ مستشاروه برغبته في استقباله. قال لهم الملك فيما بعد أن بلير أحضر له كأس ماء في قمة العشرين، وكانت لحظة تصوير لم يكن فيها سوى رؤساء الوفود، ولم يكن جوار الملك أحد من أعضاء وفده، ثم سأله بلير عن إن كان الملك يرغب بشيء، فقال له بكلمة واحدة: ماء، وفهم بلير ذلك، وأحضر له كأس الماء.
عزز الملك عبد الله من الرصيد العالمي لبلاده من خلال التعاون في مكافحة الإرهاب، وتعزيز الحوار بين الأديان والحضارات، ومحاربة التطرف وتطوير التعليم، وإصلاح القضاء. داخلياً أحدث الملك عبد الله أثراً كبيراً من خلال عشر سنوات أمضاها في الحكم، شهدت خلاله مملكة أبيه وأجداده عملية تغيير واسعة، وقفزة تنموية كبرى.
كان برنامج الابتعاث واحداً من المشاريع الكبرى التي تبناها الملك ودعمها، وكانت بوابة لكثيرين خرجوا من القرى والقفار ليرتشفوا نصيبا من العلم والحضارة. حارب الفساد بشراسة، وقال إن إصلاح القضاء هو الأساس لأنه يمثل بقاء الدولة وقوتها، وكان حريصا على المعلم لأنه الباني الأول بمستقبل البلاد. قال لوزيره الصدوق غازي القصيبي ذات يوم: تعليم المعلم هو الأساس.
في ذكرى وفاتهم، قليل من الرجال تشعر بأنهم أحياء من حولك، يؤثرون، ويبقى لأسمهم لون في الحياة، ولهم ذكر في الذاكرة.
نعم، بعض الرجال أكبر من أن يبتلعهم النسيان، ونعم كان منهم عبد الله.
يارب ترحمه استمر يا سلطان بإخبارنا عن عظمة ملوكنا.. ذكرنا ،،، آفة العلم هو النسيان، اشحذ هممنا بقوة أفعالهم ونبل أهدافهم وصدق كلامهم.
نشكر الاستاذ / سلطان السعد القحطاني على هذا المقال والشكر موصول للصحيفة الغراء وجزاكم الله خير الجزاء...
نعم والدنا عبدالله بن عبدالعزيز أكبر من أن ننساه والتأريخ والأجيال القادمة ستذكره ربما ببعض مايستحقه ... شكرا لك أستاذ سلطان وكثر الله من أمثالك على هذا المقال العظيم بشخصية والدنا طيب الله ثراه...
رحمه الله لا ننسى كذلك رعايته للحرمين الشريفين وزوارهما حيث شهد الحرمان الشريفان التوسعة الأضخم في تاريخهما نسأل الله أن يتمها على يد خلفه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله وسدد رأيه
هو والد الجميع ربي يعلي مراتبه