من الصعب أن تكون بندر بن سلطان ولا تكون بندر بن سلطان، ومن الصعب ألا تكون بندر بن سلطان وتكون بندر بن سلطان. دائما ما أقول ذلك عن الرجل الذي كان له حضوراَ بارزاً في مملكة أجداده، ودوراً فريداً على خشبة المسرح الدولي، وكان من الأدوار التي لا يستطيع أن يلعبها سواه.
لماذا ؟
لأن بندر بن سلطان كان اللاعب، والدور، في آن واحد!
أستطيع القول بأنه لم يكن سفيراً فحسب، بلHe was Bandaring the US .هذا تعبير اخترعته يمكن أن يكون توصيفا وصفة، للرجل والدور والتاريخ. يمكن أن أعتبرها بديلا عن كلمة سيطرة، أو تمكن. وتطمح لأن تقولها عن أي سياسي سيأتي بعده. أي رجل يذهب هناك إما عليه أن "يبندر" العلاقات مع أمريكا، أو لا يذهب!
ذات مساء لندني، ويا للندن ومساءاتها، تحدثت مع كبير، عُرف بأنه فاعلٌ لا يقول، عن السياسيين السعوديين في العالم. عابثته حول الدور السعودي في واشنطن، ونفوذ رجالاته الخبيء والمعلن أثناء الحقبة البندرية. صحح لي الكثير، وختمها بابتسامة ماكرة: يا عزيزي كنا نحكم أمريكا!
بالفعل، فقد حقق بندر كل شيء لا يستطيع أي سفير أن يحققه لدولته، لذلك قال ذات يوم بأنه لم تعد هنالك جبال ليتسلقها. وبالفعل لم تعد هنالك جبال ولا قمم، فقد تسلق سور الصين العظيم، وكانت النتيجة صواريخا استراتيجية جعلت إيران تبلع لسانها إلى حين.
تغيرت واشنطن كثيراً مذ غاب بندر عن المكان، والمكانة. من قال تتغير القفازات، ولا يتغير الرجال!
تغيّرت أميركا علينا، وتغيرنا نحن، بل وتغيّر العالم.
بغيابه عن الساحة الدبلوماسية نشهد فعليا عودة الوظيفة الطبيعية للسفير، إلى حجمها الطبيعي. وظيفة تجعل من السفير مرسالاً مرسولاً، من قبل رؤساء مرؤوسين، فقط، وفقط. أما بندر فكان رسول الملكية، ورسول الملك، ورسول نفسه أحيانا، كما وصفه الصحافي الكبير ديفيد اوتووي في كتاب ذاع صيته.
كان الملك فهد خلف بندر بثقل ملك، ورؤية رجل دولة. كان العم المؤمن بابن أخيه. كان فهد مؤمناً بالدول ذات الأساطيل، خصوصا أميركا وبريطانيا، أما البقية فألسنة، ومواقع جغرافية، ولذلك أولى سفارة مملكة أبيه في واشنطن، وسفيرها، عناية شديدة، حتى آخر رمق في عافيته. كان كريما على السفارة وسفيرها، وهذا ما جعل سفارة السعودية هي سفارة لدول العالم الإسلامي ومواطنيها. كانت حوالات فهد الدولة، ودولة الفهد، بالأرقام ذات الأصفار الطويلة، وكان بندر السفارة يقاتل من أجل وضع بلاده في مكانها الطبيعي الطليعي، على قبة العالم، وفي مرتفع الإقليم.
مر على بندر بن سلطان نحو خمسة رؤساء، وأكثر من عشرة وزراء خارجية. كان الرجل الذي عرف أوباما وديموقراطييه. الرجل الذي رفض استقبال وزير الخارجية جون كيري، وقد كان يعلم دوره السلبي، ومجاملاته لإيران. لم يوافق سوى على لقاء سريع في أرض المطار، قبل أن يقوم بندر برحلة دولية. رفض كيري، ولم يحدث ذلك اللقاء، وهذا ما عمّق من غضب إدارة أوباما عليه.
إنه الرجل الذي واجه الأسد وبوتين، ورجالات طهران في كل مكان. حين تسلم ملف سوريا، طلب الأسد من حكومة المملكة إرسال أي مسؤول سعودي إلا بندر، قبل أن تغيب رسل رسائل المراسلين المرسلين، ويواجه الأسد وحشته المظلمة.
حين غاب بندر بن سلطان الغيبة الأولى، وقد كانت معتزلاً طويل الأمد، كان يتسلى في دارته الحمراء المراكشية، في ضاحية النخيل الأنيقة، بقراءة أخبار الصحف المشبوهة التي كانت تتحدث عن انقلاب، ومؤامرة، وإبعاد. كان يسخر منها مع رؤساءه الكبار الكبار، وكان البعض لا يعلمون.
وعندما قرر الخروج من المعتزل الاختياري، توجه بطائرة خاصة من مطار بيرمنغهام، إلى بلاده. وحين وصل كان في استقباله عمه الصديق مقرن، وكبار أبناء العمومة. وعاد للعمل، وتوالت الملفات.
في يوليو 2012 تولى رئاسة الاستخبارات العامة. كانت مرحلة الاستخبارات دقيقة، وسريعة. وجه خلالها الجهاز ضربات متوالية للخلايا الإيرانية، وجواسيسها، وجماعات الإسلام السياسي أيضاً، وخصوصا تنظيم الإخوان المسلمين.
كان لديه شك جيني في كل من يحاول استخدام الدين لمصالحه الشخصية، وهو المؤمن بإسلام نقي لا تستخدمه السياسة. وكان لديه ايمان بأن التغيير يجب أن ينبع من الداخل، ودائما ما كان يستشهد بأن سقوط الشاه جاء بسبب محاولته فرض تغيير يتنافى مع التقاليد، والعادات الإسلامية.
نوبات الحزن في حياة بندر الإنسان كثيفة، وكثيرة. على غرار تشيرشل، ورفاقه الكبار كان الأمير بندر يواجه الحزن بالعزلة. حين تعرض عمه وعرابه السياسي الملك فهد لأول جلطة، شعر بندر بالكثير من الحزن، فلقد دخل الملك في غيبوبة بعد ساعات من مكالمة هاتفية.
وحين توفي والده، أصيب بذبحة قلبية منعته من حضور الجنازة. كان يتأمل الأب الراحل في داخله بحزن، حتى خذله قلبه ولم يخذله الأطباء. لربما طافت في خياله صور الصور بالأبيض والأسود، وبالألوان أيضاً. صورة الطفل الصغير وهو يلقي أسئلته القلقة على موظفي القصر كي يطمئنوه على والده ذات مرض. صورة الطيار الذي خرج مفاجئاً والده من إحدى الطائرات المقاتلة، وعتاب الأب المختلط بالقلق على ابنه الممنوع من قيادة الطائرات. ولربما الكثير من الصور المطبوعة في روح الأمير، وذاكرته، وقلبه، وبعضها لا يعرفها إلا هو، وهو فقط.
إنه الكابوي البدوي، والبدوي الكابوي. يرتاح لارتداء الثوب السعودي، وكذلك البدلة الإيطالية الأنيقة. لا غرو من ارتداء الشماغ الأحمر حيناً، وحيناً ربطة العنق، وقد كان يفضل الدواكن منها. يعشق صحراء الخزامى، وآسبن الثلج. يحب ام كلثوم ومحمد عبده، ويؤمن بالعروبة، والحداثة الغربية. يحب سيناترا، ويكتب الشعر الشعبي، ويقرأه صديقه القديم الجديد محمد الصباح. كان خليطاً من كل شيء، وجسر بين حضارتين.
إنه بندر.
بينما كان سفراء العالم يتوقون للقاء الرئيس الأمريكي، ولو حتى في أحد ممرات البيت الأبيض، لالتقاط مجرد صورة، كان بندر السعودية يتحرك في كواليس واشنطن، ومراكز صنع القرار فيها، وكأنه في ملعب للقولف، ولكن بأناقة أمير، ولياقة سمكة قرش، تعرف متى تنام... ومتى تستيقظ أيضا!
احسنت التعبير واتقنت اختيار الكلمات في وصف الامير والدبلوماسي والشامخ بندر بن سلطان