حتى مع ورود الأخبار التي انتشرت الأسبوع الماضي حول ندوة معرض الكتاب في الرياض، والتي تعرَّض فيها أحد الزملاء، عند نقده لهدم الآثار من جانب جماعة داعش، إلى لوم مغلظ لم يخلُ من اتهام بالهرطقة المبطنة من البعض، إلى تصريح أحد الدعاة في الكويت بجواز هدم التماثيل، لأنها «أصنام»، والتي أثارت هي الأخرى موجة من اللغط، كنت أعتقد أن التفكير الخارج عن العلمية هو إحدى خصائص تفكير بعضنا، حتى وقع في يدي العدد الأخير من المجلة الجغرافية الشهيرة (النسخة العربية التي تصدر من أبوظبي)، وأعتبر هذه المجلة الموسوعية العريقة بمثابة جامعة مفتوحة. عنوان غلاف العدد الأخير للمجلة المذكورة هو «حرب ضد العلم»! والعناوين الفرعية جاءت كالتالي: الأرض مسطحة، والهبوط على القمر أكذوبة، والاحتباس الحراري العالمي خدعة، واللقاح يسبب مرض التوحد!! لأول وهلة، كما سيفعل معظم قراء هذه الكلمات، اعتقدت أن الموضوع برمته يعالج رؤية كثير من العرب، أو حتى المسلمين المعاصرين للظواهر الطبيعية والإنسانية من حولهم، ولكن المفاجأة أن المقال المطول والمليء بالأمثلة، يتناول الشكوك في نتائج العلم الحديث في المجتمع الغربي والأميركي بالذات. هل هي مفاجأة سارة؟ أي أننا في الهم سواء، شرقنا العربي، وغربنا الذي نقول عنه «متقدم»؟! أم هي نزعة إنسانية عارمة تقف عاجزة عن استيعاب هذا الكم الهائل من التطورات العلمية في التقنية وفي فهم السلوك الإنساني، فتعود إلى النكوص من خلال رفضها جملة وتفصيلا تفسير الظواهر الحديثة تفسيرا علميا، وترضى بأن تودع عقلها إلى الماضي، لأنه أكثر راحة، وأقل تعقيدا؟ ربما، وربما هناك أسباب أخرى قد لا نعرف إلا جزءا يسيرا منها الآن. تذهب دراسة المجلة الجغرافية إلى تمسك كثيرين بنفي نتائج العلم المعروفة والمحققة، فتقول: إنه من الثابت علميا أن إضافة الفلوريد إلى مياه الشرب تمنع تسوس الأسنان! وهو أمر يجمع عليه العلماء والأطباء، إلا أن سكان مدينة بورتلاند بولاية أريغون في الولايات المتحدة، يمنعون ذلك، ويعتقدون أن الفلوريد مضر بالصحة! وهو قول يتسق مع الكثير من الثقافات في مناطق العالم البدائية، وهو قائم على قناعة: إننا لا نصدقكم أيها العلماء! على الرغم من تأكيد المجلة أن العلماء في أنحاء العالم يعشقون تكذيب بعضهم، ولو كان هناك بصيص من الشك في نتائج البحوث العلمية أيا كانت، فإن حب العلماء لتكذيب بعضهم سوف يكشفها، وما إجماعهم إلا دليل على إقامة الحجة العلمية القاطعة أو شبه النهائية. ويأتي سرد المجلة التي تستعرض التشكيك في نتائج العلم من البعض، من كون الكرة الأرضية بيضاوية، إلى أن التسخين الحراري للأرض أكذوبة، تفسر ذلك التشكيك بقولها: «إن العلم يستميل دماغنا العقلاني، ولكن معتقداتنا (الاجتماعية أو الثقافية أو غيرها) مُحفَّزة على وجه العموم بعواطفنا». وتضيف أن وسائل التواصل الاجتماعي العالمية الجديدة تقدم فضاء واسعا للمتشككين، فليس كل ما يكتب هناك على الحائط الافتراضي صحيحا وعلميا، بل يكون مرجعا للتشكيك من البعض. إلا أن هناك تفسيرا شبه علمي لحاجة الناس (للسير في القطيع)، وهو: «لأن الناس يشعرون بالحاجة إلى الاندماج في معشر أقرانهم، وتكون تلك الحاجة ملحة، إلى درجة أن القيم المحلية، والآراء السائدة محليا، تطغى على العلم!». هل ما تقدم يعطي تفسيرا مقنعا لما نحن فيه من توتر في محيطنا العربي، ظاهر في الجماعات دون الدولة (المسلحة أو المتمترسة خلف الإرهاب الفكري)؟ حيث يرى بعضهم عن قناعة، أن «التماثيل التاريخية» أصنام!! والمخالفين «كفرة»! في الإطار الأوسع، القضية برمتها صراع أفكار، يصل البعض فيه إلى غلو، بحيث يعتبر نفسه الممثل الأوحد والحصري للتفسير المتاح، بما فيه تفسير الإسلام والثقافة الإسلامية، وبسبب عوامل الدفع (الظروف السياسية والاجتماعية المحبطة، وتآكل الشرعية) وعوامل الجذب (رغبة الانتماء إلى جماعات تنتقم من ذلك الإحباط، المحلي أو الإقليمي أو الدولي) يتدفق الشباب إلى تلك الجماعات، لأن الناس من جديد يرغبون في الاندماج في محيط أقرانهم! خصوصا إن أبدى هؤلاء الأقران جذبًا آيديولوجيًا على أنهم الممثلون الحصريون للإسلام، هم في الغالب (علميًا) أناس محبطون إلى قمة رأسهم، بعضهم حاول الانضمام إلى جماعات كارهة مختلفة في حياته، بعضهم كان له علاقة بالعالم السفلي (الإجرام) أو المخدرات، أو وقع تحت مظلومية ما وهي ظاهرة يشترك فيها التطرف ذو الأصول المشرقية، وأيضا التطرف ذو الأصول الغربية (هناك دراسات قدمت أمثلة واضحة للأصول الغربية البحتة للتطرف). أناس مثل أبو مصعب السوري، وأيضا الزرقاوي، والبغدادي، وغيرهم ممن ظهروا لنا كقادة في الميدان القتالي، أو آخرون في الميدان الدعوي والثقافي، يعتبرون أن محيطهم كله «كافر»، تكفيريين وقاعديين ومدافعين عن المراقد، كل هذه الجماعات تشترك في متوسط أعظم، هو توظيف المذهبية المسلحة، ضد الآخر، الذي يمتد من الحرب ضد الدولة القائمة، إلى الحرب ضد الآخر المختلف، إلى الحرب ضد المنافس، ومن هم خارج التنظيم! وتتوسل هذه الجماعات، الوحشية الدموية، كطرق للتخويف من جهة، والحشد من جهة أخرى. هدف تلك الجماعات المعلن هو إقامة «الدولة الدينية» على مقاسهم، التي لا تتنافى مع معطيات العصر فقط، ولكنها أيضا تتعارض مع تاريخ المسلمين، ومع معطيات العقل المنتمي إلى العلم. قد تولد «الطائفية/ التكفيرية) بأشكالها المختلفة تحول منطقتنا من الدولة إلى الكانتونات العرقية والطائفية والمذهبية والعرقية، بل وربما القبلية. وما يحدث في السودان، لمن يريد الاتعاظ، مثال قائم، فلم ينقسم السودان إلى شمال وجنوب، بل وإلى جنوبيين (تحت التأسيس) قائم على القبلية، وشماليين (تحت التأسيس) على الأقل، قائم على نفس المنهج، وكذلك تقسيم في ليبيا قائم على نفس الترتيب، ويهدد هذا المنحى كلا من سوريا والعراق واليمن!! كل طائفة وفرقة تستولي على «الدولة» لطائفتها، فترد الأخرى بفعل معاكس، وبنفس القوة. الحقيقة العلمية أن الطوائف لا تقيم دولة، ذلك ملخص تاريخ الإنسانية، وإن أقامتها فهي هشة سرعان ما تزول. لا تستطيع جماعة طالبان أن تقيم دولة في أفغانستان، كما لا يستطيع «حزب الله» أن يقيم دولة في لبنان، مثلما فشلت «دولة القانون» مع المالكي عند محاولتها أن تفعل ذلك في العراق، كما لا تستطيع «النصرة» أن تقيم دولة في بعض سوريا، كل ذلك أضغاث أحلام، تأسيس شرعية في زماننا يتطلب أكثر من تعصب طائفي أو خطاب عرقي أو آيديولوجي إقصائي، ولكن تلك الأحلام المرتبطة بالفشل تجد لها قناعات من البعض وتكلف المجتمعات الكثير من العناء البشري، والكثير من الدم. هؤلاء الدعاة على رأس التنظيمات المتطرفة، أو على شاشات التلفزيون كل مساء، البعيدون عن التفكير العلمي، يعتقدون أنهم هداة يتبعهم البعض من محترفي الجدل وقليلي المعرفة، إلا أنهم دعاة ضالون للطريق الإنساني والعلمي في بناء المجتمعات، هم دعاة فوضى، وليسوا دعاة بناء، وهم الخاسرون في نهاية المطاف، فالتاريخ لا يتراجع إلى الخلف! آخر الكلام: يدخل الصراع في سوريا عامة الخامس، وينظر العالم إلى معرض الصور الذي أقيم في الأمم المتحدة بدعم من عدد من الدول، بينها السعودية، وقطر، وتركيا، لمصور سوري في الشرطة العسكرية، هرّب معه مجموعة صور يندى لها جبين الإنسانية، وهي دليل دامغ على جرائم حرب بشعة ارتكبها النظام السوري.. إلى متى سوف يبقى العالم يتفرج؟