قبل أسابيع سعدت بحضور ملتقى الاعلام العربي في الكويت، وهو تجمع إعلامي مهم، يوفر حوارا متجددا حول شؤون المهنة منذ أكثر من ١٤ عاما. كنت ضيفا على ندوة تتحدث عن العلاقة بين الصحافة الورقية والإلكترونية، وكان لدي قناعة وقتها بأنه يجب علينا ألا نصور الأمر وكأنه معركة قاتلة بين قبيلتين، أو جيشين، بل هو قصة تطور طبيعية، يجابهها تحد ثقافي في المقام الأول.
الهلع من التغيير؟
نعم هذا ما قلته في تلك القاعة الأنيقة من فندق "ريجنسي" ذلك الصباح. ولا زلت أرى الأمر برمته لا يعدو عن كونه صراعا ثقافيا، وروحيا مع التغيير، والحداثة، أكثر من أي شيء آخر. إنه الخوف العربي المزمن من التغيير. الإحساس بأن التغيير سيسلب هويتنا، وبنيان ثقافتنا، لذلك لابد من مواجهته بقسوة مهما كلّف الأمر.
في حالة الصحافة ورقا، واليكترونا، أرى أن المسآلة أسهل بكثير. إنه التطور. لولا التطور الطبيعي للكتابة، وأدواتها، لكتبت لكم هذه المقالة على جدار أحد الكهوف، أو على جذع شجرة. وبدلاً عن ذلك ها أنا أكتبها لكم على لوح إليكتروني يومض بأناقة كالغد، وكرسالة على تطور العقل البشري، والحياة أيضا.
خلقنا لنتغير ونجدد حياتنا يوماً بعد آخر. حين تفقد القدرة على التغير، فإنك تفقد القدرة على الحياة.
إن العناصر الطبيعية يداهمها التلاشي المعنوي دوماً لصالح عناصر أخرى، ولا يبقى سوى العقل الإنساني النهم للتغيير. من يصدق بأنه في قرن من القرون كانت الحروب العالمية تدور حول الملح، والبهارات، والشاي؟. كانت هذه العناصر تحرك الجيوش، وتسقط الحكومات، فهل لا تزال على ذات الأهمية حتى الآن؟
ألا نرى الآن كيف أن دولاً خليجية وعالمية، تستعد لمرحلة ما بعد النفط، رغم أنه كان عنصر العناصر، التي صبغت حياتنا وعالمنا لأكثر من قرن؟
حين تنتهي العناصر الطبيعية معنوياً، فإنه لا يبقى سوى عقل الإنسان المتوقد، وهو العنصر الأساس في صناعة التغيير. حركة التغيير هذه لابد وأن تلقي بظلالها أيضاً علي مهنة المهن: الصحافة.
الورق سيكون كالملح والبهارات، وربما النفط يوما ما، حكاية نرويها لأبنائنا، أما الصحافة فباقية وتتطور. بدأت الصحافة في العالم كورقة آخبار. الآن تقلصت سطوة الأخبار، وستنتهي الورقة، وذلك بسب منافسة قوية من التلفزيون والراديو ووسائل التواصل، الأمر الذي يستوجب تجديدًا لروح العمل الصحافي، ولغته، ووسائله. سيموت الورق ولكن علينا ألا نموت معه. مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه المعلومة مرتبطة بالصحيفة التي نبدأ بها صباحنا. لقد تغير عالمنا كثيرا. أصبحنا جزءا من الأخبار، وجزءا من صناعتها، بل أصبحت الأخبار تصلنا قبل صدور الصحيفة أيضا. تخيلوا!؟
كشخص عمل في الصحافة الإليكترونية لآكثر من عقد أقول إن مُنافِسة الورق، وهي المواقع الالكترونية، ستختفي أيضا. نعم ستختفي معنوياً. المستقبل للأجهزة اللوحية، والتطبيقات الإعلامية، ولغة الجرافيك والفيديو جرافيك، وما قد يستجد من هذه السلالة الجديدة.
يتغير الزمان، ويبقي الإنسان والصحافة، عنصران لديهما القدرة على تجديد نفسيهما دائما.
لماذا ؟
لأننا البقاء، والنسخة غير المنقحّة للتاريخ!