اسقطت الاستراتيجية الروسية الحالية المتعقلة والايجابية وذات الأهداف بعيدة المدى؛ الولايات المتحدة الامريكية بضربات مخففة من الداخل، فبدأ رجال (ترمب) يتساقطون من الداخل كأوراق الشجر في أوائل فصل الخريف؛ كل يوم نسمع باقالة او استقالة رمز من رموز الحكومة الامريكية، وإضافة لذلك؛ تلك المكاسب التي يسعى اليها كلاً من وزير الدفاع او وزير الخارجية الأمريكيين بصفتهما الشخصية (كلاً على حدة) وطموحهما لتولي الرئاسة الامريكية في حال انسحاب (دونالد ترمب) من الحكم، او اضطر (الكونغرس) الامريكي الى إعفائه عن رئاسة الولايات المتحدة (Impeachment).
شواهد كثيرة تدور في الفضاء حول ذلك، ف(ترمب) اعتقد ان قيادة دولة عظمى يكمن في جمع الأموال فقط، وقد يكون ذلك صحيحاً، في ظل نظرية الرأس مالية الامريكية، ولكن الأهم ان تكون محترم داخل بلادك وخارجها، وهذا ما يفتقده (ترمب) فكونه رجل اعمال غني جداً وناجح في إدارة أعماله، لا يمكن باي حال من الأحوال ان تجعل منه رئيس ناجح ومقنع ومحبوب لأعظم قوة في العالم.
فالسياسة تحتاج كياسة، والتجارة تحتاج ذكاء و(احتيال)، ولا يمكن جمع ذلك كله في رجل واحد. لذا سقط (ترمب) في ضباب التجارة وفرض العقود، عندما كان يلتقي بمن هم اكثر حكمة وكياسة وفكر سياسي منه، لذا الهوه بما يحب لوقت قصير، ليكسبوا ما سعوا له من وقت طويل.
هنا نستطيع التمييز بين من يستطيع ان يحكم البلاد من عدمه ليتولى حكمها غيره، فطويل النفس منهم سيبقى لتحقيق أهدافه وأسبابه، وقصير النفس او عفيف النوايا سيستقيل او سيبتعد.
هذا هو الوضع السياسي في الغرب، دول عظمى تسقط لان قيادتها هشة، أمريكا وبريطانيا، بينما روسيا حافظت على صمتها وهدوئها وبناء قوتها بالرغم من انتقاد الجميع لها، ولكنها ستأخذ موقع الولايات المتحدة السابق (القوة العظمى الواحدة)، بريطانيا دولة الجواسيس والمنشقين عن اوطانهم (الكلاب النابحة)، وسياحة أغنياء العرب ونقودهم، فرنسا انقذت نفسها بحكمة رئيسها السابق (فرانسوا هولاند) عندما رفض ترشيح نفسه لفترة اخرى بسبب تأكده من ضعفه امام العالم وضغوطه السياسة، وانتخبوا شاب تربى في حضن أمه، ثم عاش في حضن معلمته في مرحلة الابتدائية وزوجته الحالية!
فهو مستقر عاطفياً واجتماعياً منذ الطفولة ومقاعد الدراسة، وحتى كرسي رئاسة فرنسا. الاستقرار العاطفي يقود الانسان دائماً الى اتخاذ القرارات المناسبة في حياته وظروفها المختلفة، وكما يعلم الجميع فحتى الرجل السياسي مخلوق عقلاني وعاطفي أيضاً، وقد يضعف او يقوى حسب تربيته وطموحاته التي أنشئ وباستقرار نفسي من اجل تحقيقها. هذا يعني ان علينا قراءة الماضي العالمي، ثم الحاضر الدولي، والاستعداد الى المستقبل العربي وهذه هي العقدة الحقيقية في عالمنا العربي البائس المتناقض.
تبني الدول استراتيجياتها على أسس محددة وعلى العديد من العوامل أهمها الاستقرار بجميع اشكاله، الذي يُبنى بالامن وايجابية اقتصادية وسياسية، ودبلوماسية وجيش قويان، فتحديد العدو وتعريفه (التهديد ومصادره) هو اهم عناصر بناء القوة الوطنية بعمومها، والتي لا تتوقف فقط على نوع وكمية السلاح، بل على قوة الداخل من حيث الفكر وإيجابياته ومكوناته، والمكون الرئيس لبناء القوة يكمن في أبناء الوطن الواحد:
من هم ؟
ومن أين أتو ؟
وكيف تعلموا ؟
ومن تولى تعليمهم ؟
ثم من رعاهم أطفالاً، فشباباً، ثم رجال؟
هذه بعض من مرتكزات الخطط الوطنية طويلة المدى، والقائد الحكيم يسعى لأمرين، بناء قوة بشرية تقف معه بايجابية، وبناء كتلة معارضة تقف ضده بايجابية أيضاً، وهذان الأمران من الأهمية بمكان لبناء وطن متوازن ومعتدل وَذَا مردود مستقبلي إيجابي. بعد بناء هاتين الكتلتين، يبدأ الحاكم العاقل في تنفيذ خططه الوطنية السياسية والاقتصادية والامنية، بعد ان يتأكد ان من حوله سواء من هم معه، او من هم ضده، غرضهم نجاح وتقدم واستقرار وازدهار الوطن الواحد للشعب الواحد والموحد. والثلاث عناصر الاساسية لتحقيق أستراتيجية الاوطان تتطلب تعليم متميز ومتقدم، وتوفير بيئة علاجية عالية المستوى (الصحة)، ومصادر رزق مقنعة للجميع (اقتصاد قوي).
الان فقط؛ يمكن بناء مجتمع ووطن قوي غير قابل للاختراق او للتهميش او للانهيار، فالقيادة القوية في أمريكا الشمالية وأوروبا وشرق اسيا، وحتى في أمريكا الجنوبية والشرق الأوسط، تحتاج الى حكمة المواطن وخوفه على بيته، ثم على منطقته، وبالتالي خوفه على كامل وطنه، ودرجات الخوف والحب والولاء يجب ان تكون تصاعدية وايجابية، وكل مستوى له من يقوده ويسعى الى صيانته والحفاظ عليه. هكذا تُبنى الاوطان ويُحافظ عليها. فامريكا لن تظل القوة العظمى لضعف من تولاها مؤخراً، وروسيا بدأت تستعرض عضلاتها لانها وضعت عقيدة جديدة لها، تولاها بوتين الذي سحب البساط من الجميع وأصبح على قمة هرم الاتحاد السوفييتي السابق والساحة الدولية الحالية، فاصبح وزير خارجية أمريكا اليوم يطلب ود روسيا بنفس طريقة طلبه لود قطر، وبهذه المقارنة العجيبة وغير المتوازنة، نجد أنفسنا في مجتمع دولي اصبح اكثر غرابة وجنون! فماذا ننتظر أكثر من تلك الشواهد لنعيد حساباتنا الوطنية، ونوعية وثوابت علاقتنا الخارجية كمواطنين ومفكرين استراتيجيين ومسؤولين. والله اعلم...
بدر العثمان
٢٠١٧/٠٧/٢٢م