2015-10-10 

هنا مسقط: صخرٌ يُراوده الموج

زاهي وهبي

وكأن الجبل الصخري الهائل يبسط كفيه لترتاح مسقط وتسترخي بين شعابه ووهاده، وكأن بحر عُمان يمدّ ذراعيه لمعانقة يابسة تغدو لينة هينة إذ تنصت لوقع أقدام مَن مروا هنا على مدار تاريخ ترك ندوبه وتغضناته في جغرافيا قاسية ما كانت لتلين لولا أن طوّعها أولئك الذين قدّوا الصخر وروّضوا الأنواء وركبوا البحر وأمواجه ومزاجه الغادر، ويمّموا وجوههم شطر المقلب الآخر من شبه الجزيرة العربية، وشدّوا الرحال والأشرعة نحو الهند وأفريقيا. فكانت رحلات صيدهم بحثاً عن لؤلؤ المحار والبحار ميدان تعارف وتفاعل بين شعوب وثقافات وتقاليد وأعراف وطقوس دين ودنيا، لا تزال ملامحها وآثارها ماثلةً في وجوه الناس وقسماتهم التي تكتب الأيام على صفحاتها حكايات لا ترويها عادةً كُتب التاريخ. هنا مسقط، هنا يتقاطع التاريخ مع الجغرافيا، فلولا ذاك الموقع الفاتن على فوهة المضيق امتداداً نحو بحر العرب وصولاً (في ما مضى) إلى شواطئ زنجبار لما كنا سمعنا ربما بتلك السلطنة التي امتدت ذات حلم لتغدو امبراطورية تبسط سلطتها وسلطانها على مساحات يتعانق فيها البر والبحر في لحظة أبدية لا يجيد اغتنامها سوى دهاة سياسة لا تزال تجد مطرحاً لها هنا بعيداً من ضوضاء الإعلام وصخبه وفوضاه، وإذ نقول السياسة نعني تلك الحياكة السرية والقطب المخفية التي لا يفقهها إلا الراسخون في الحنكة وفي كواليس الديبلوماسية وأسرارها وصناديقها السوداء. لذا لا تستغرب وأنت في خضم رحلة ماتعة على متن مياه بحر عُمان حين يشير صحبك العُمانيون إلى ذاك الفندق النائي المتحفي بين جبل أشبه بحارس أسطوري شديد البأس وبحر لا يشرّع مداه إلا لمن حظي بنعمة مخر عبابه وعباب «محيطات» المشاركة في صناعة مستقبل الإقليم. الفندق المسمى قصر البستان يلتقي في قاعاته وأروقته بعيداً من أعين الفضوليين صنّاع جولات تفاوض أميركية وإيرانية وما سوف ينجم عنها من خرائط نفوذ، تحت أعين ومسمع ساسة البلد المُضيف الذي يجيد ديبلوماسية صامتة تؤتي أُكلها ولو بعد حين، فضلاً عن نزلاء آخرين لهم ما لهم من باع وطول أناة في رسم قواعد الاشتباك أو العناق بين المتحاربين في أكثر من جرح عربي. العودة إلى مسقط تشبه عودةً إلى البيت، ثمة ألفة تنشأ بينك وبين المكان وتعقد أواصر صداقة من النظرة الأولى، خصوصاً إذا كنت تملك مزاجاً شاعرياً يستعذب هدوءاً وسكينة وانضباط َالأيام في رتابات مثمرة. هكذا هي مسقط فيها شيء من وداعة أهلها وطيبتهم وحفاوتهم وحُسن استقبالهم. الدور التصالحي الذي تلعبه بلدهم على مستوى الإقليم لا يعود مستغرباً حين تستقبلك وجوه مبتسمة مرحبة باذلة أقصى جهدها وأكثر من وسعها لكي تشعرك أنك في بيتك وبين أهلك، ولعلك تتساءل في سرّك كيف لأبناء جبال صخرية اقاسية تلك الوداعة المتمثلة في كل مَن تلتقيه مبتسماً أليفاً عفوياً بلا تكلف أو تصنّع، أهو البحر وانفتاحه ورحابته رشَّ ملح المودة على موائد العُمانيين؟ لكن مهلاً، لا تغرّنك الرّقة، حين دعت الحاجة خرج من بين تلك الوهاد الصخرية محاربون أشداء وسّعوا سلطتهم وسلطانهم براً وبحراً. البيوت البيضاء الأنيقة المسترخية كسربِ حمامٍ يرتاح بعد طول تحليق تغريك بالسؤال عن قاطنيها وحالهم وأحوالهم ومأكلهم ومشربهم وطقوس عيشهم، لتتأكد مما تعرفه أن الناس على هذه الأرض (العربية) يتشابهون ويتماثلون مهما باعدت بينهم مسافات وفصول، ولعل فصلاً أكيداً لم يعد أحد يشتهيه من المحيط إلى الخليج وهو «الربيع الدموي» الذي أطل مبشراً واعداً قبل أن يسرقه تجار الهيكل ومصاصو دماء الشعوب والأمم، آملين بربيع عربي حقيقي مسبوقاً بنهوض فكري وثقافي تنويري ضروري لتتفتح براعمه وأزهاره ويحقق نقلة مرجوة نحو دول حديثة تتجلى فيها الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتضع العرب على طاولة الأمم، لا كوجبة دسمة كما هو حالهم الراهن، بل كشريك في صناعة العالم. هنا مسقط، هنا جامعة السلطان قابوس المترامية الأمداء والأحلام وكأنها بنيت بأخيلة طلابها وتطلعاتهم إلى أيام أكثر بياضاً ورحابة، لقاء الطلاب الشباب يبث فيك شحنات أمل ويجدد فيك الرهان على جيل ليس له أن يضرس حتى لو أكل آباؤه الحصرم. تعرف أن لكل بلد وشعب ومجتمع شؤونه وشجونه، لكنك مجرد زائر يبحث في عيون الشباب طلاباً وطالبات عن حلم غير مستحيل، بعد أن بات العالم كله في متناول أيديهم، ولعل لا أفق لأمة العرب ولا ملاذ، إلاّ أولئك الشباب وأحلامهم الممتدة من بحر عُمان إلى ضفاف الأطلسي. *نقلاً عن صحيفة "الحياة"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه