ليس أوضح من السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. منذ وصوله إلى البيت الأبيض أكد الرئيس باراك أوباما أنه سيضع حداً للحروب التي شنها جورج بوش الابن. وسيستخدم «القوة الناعمة» (الديبلوماسية) لتحقيق المصالح والمحافظة عليها. بدأ تنفيذ هذه السياسة بالانسحاب من العراق والتحضير لمغادرة أفغانستان. ولم يتورط مباشرة في الحروب الداخلية التي أشعلها «الربيع العربي»، على رغم المغريات الكثيرة والدعوات الملحة (وصلت إلى حدود التوسل) للتدخل وإرسال جيوشه لإسقاط هذا الرئيس أو ذاك. انخرط في الحوار مع إيران حول برنامجها النووي، وأمور أخرى تتعلق بأفغانستان والعراق وسورية وإسرائيل. واتضحت هذه السياسة أثناء الهجوم على ليبيا، إذ كان تدخل واشنطن محدوداً جداً، قياساً إلى تدخل باريس والآخرين وحماستهم. وكانت أكثر وضوحاً عندما انتظر هولاند في آب (أغسطس) 2013 إشارة من واشنطن لإطلاق الهجوم على دمشق، وخاب أمله من موقف البيت الأبيض الذي «أمره بالتوقف عن المضي في المغامرة». وقبل أسبوع عبر رئيس هيئة الأركان الأميركية الجنرال مارتن ديمسي عن هذه السياسة وقال: «مهمتي هزيمة داعش، وليس بناء دول أو إطاحة النظام السوري». في إطار هذه السياسة المعروفة جاءت تصريحات كيري، قبل أيام، عن الحوار مع الأسد. وكان يجب أن لا تفاجئ أحداً، خصوصاً الأصدقاء والحلفاء الذين استاؤوا منها واعتبروها خيانة فهم مطلعون مباشرة على توجهات واشنطن، وينسقون معها في كل كبيرة وصغيرة. صحيح أنها سعت وتسعى إلى إسقاط الأسد. ودعمت المعارضة، معتدلة وغير معتدلة بالسلاح والتدريب والمعلومات. ووقعت اتفاقاً مع تركيا لتدريب المزيد من «المعتدلين»، وهي تدرس حمايتهم بعد إرسالهم إلى الداخل السوري. لكن الصحيح أيضاً أن معظم التشكيلات المسلحة، إما انهارت بالاقتتال في ما بينها، أو خلال المعارك مع الجيش. أما المجالس والهيئات السياسية، مثل المجلس الوطني والائتلاف وغيرهما، فلم تستطع وضع رؤية سياسية تجمع حولها المعارضة، فضلاً عن فشلها في جذب السوريين العاديين الذين يقتلون كل يوم وقد تحولت مطالبهم بالحرية والديموقراطية إلى مطلب واحد هو وقف الدمار والخراب والقتل. هذا الفشل جعل واشنطن تلوح بالبحث عن مخرج آخر من خلال الحوار مع الأسد، بشروط قد يحتاج تحقيقها إلى سنوات من الحروب، وتغيير خرائط وتحالفات. فضلاً عن هذا، جاءت تصريحات كيري في وقت وصلت المفاوضات مع إيران حول ملفها النووي إلى مرحلة مفصلية، ورأى البيت الأبيض أن تشجيعها من خلال التساهل مع أحد حلفائها (الأسد) قد يساعد في التوصل إلى اتفاق، فالاتصال بالرئيس السوري يعني اعترافاً بنفوذها في دمشق، واستعداداً لتقاسم هذا النفوذ معها. أكثر من ذلك، وللمرة الأولى لم يذكر التقرير الذي قدمه مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر إلى الكونغرس إيران و»حزب الله» مقرونين بالإرهاب. صحيح أن ذلك لا يعني رفعهما من «اللائحة السوداء»، وليس له قيمة قانونية، لكنه في الوقت ذاته مؤشر مهم إلى تحول في سياسة البيت الأبيض في الشرق الأوسط، وغزل إباحي لطهران وحلفائها، وتنحية الخيار العسكري في التعاطي معها. ليس مستغرباً أن تشكل هذه التحولات في سياسة البيت الأبيض قلقاً للسياسيين الأميركيين، في الداخل، وللحلفاء والأصدقاء في الخارج. فالتفاهم مع إيران، إذا حصل، يعني تغييرات استراتيجية كبرى في الشرق الأوسط، خصوصاً في العالم العربي.