اختار التحالف الوطني (الشيعي) الحاكم الاعتماد على «الحشد الشعبي» وايران في محاربة تنظيم «الدولة الاسلامية»، بدلاً من الخيار الذي دعت اليه واشنطن بإعادة بناء الجيش وكسب أبناء المناطق (السنّية) بتشكيل حرس وطني بما يجعل منهم شريكاً حقيقياً في الحكم. ان المأزق الذي يعاني منه العراق هو بالأساس الانقسام الطائفي وبالتالي تداعيات «الحشد الشعبي» الشيعي، ودخول ايران بقوة في الصراع العسكري سينعكس سلباً على هذا الانقسام، لا بل قد يخدم تنظيم «الدولة» أو «داعش» كحامية للسنّة، بخاصة بعد ما تناقلته الاوساط الدولية والاعلامية من تجاوزات لـ «الحشد» في المناطق العربية السنّية. كان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي يخشى تسليح المحافظات العربية السنّية، اول من دعا الى تأسيس «الحشد الشعبي» وجعل مسؤوليته من اختصاص مستشارية الامن القومي وليس الجيش. وشكلت الميليشات الشيعية المرتبطة ايديولوجياً وتنظيمياً بإيران كمنظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله وكتائب الامام علي وغيرها، والتي قاتل بعضها ضد الاميركيين وساهم بعضها الآخر في القتال في سورية بجانب الاسد، العمود الفقري لهذا الحشد، واستفاد الاخير من فتوى السيد السيستاني بالدعوة للجهاد الكفائي فانخرط عشرات الآلاف من الشيعة في تنظيمات الحشد وخصص لهم المال والعتاد. وجاءت مشاركة التيار الصدري في الحشد بتشكيلات «سرايا السلام» مستقلة عن الآخرين، وأصرت على العمل تحت إمرة الجيش وليس مستشارية الأمن القومي التي تضم اضافة الى فالح الفياض، كلاً من ابو مهدي المهندس وهادي العامري وقيس الخزعلي، والتي يسعى نوري المالكي لتسنم قيادتها. استفاد الحشد من قرار اميركا عدم التدخل بقوات عسكرية برية، ليبرر التوجه الى ايران طلباً للمساعدة (صدّرت ايران ما يزيد على عشر مليارات دولار من الاسلحة للعراق منذ سقوط الموصل وآخرها صواريخ الفجر والفاتح). وهكذا التاريخ يعيد نفسه، فالمعارضة العراقية اعتمدت على اميركا في اسقاط صدام، وها هي قوى شيعية عراقية تعتمد على ايران في حربها ضد «داعش»، بدلاً من التحالف والانفتاح على ابناء المحافظات العربية السنّية. كان خطر «داعش» بمثابة فرصة لإعادة اللحمة الوطنية للعراقيين باسم الدفاع ضد عدو مشترك، ولكن امام عدم واقعية وتشرذم القيادات السنّية، في الحكم والمعارضة، في أخذ المبادرة للتعاون، وامتناع واشنطن عن المشاركة بثقل عسكري بري، تركت الساحة لإيران لملء الفراغ، ولتقدم الأخيره نفسها كمخلص للشيعة من خطر «داعش». ان النجاح النسبي الذي حققه الحشد بانتراع بعض الاراضي من سيطرة «داعش» زاد قيادته ثقة، وبالتالي جعلها اقل استعداداً للتسويات مع قادة المناطق العربية السنّية وأكثر اعتماداً على ايران، حيث تحول الحشد خلال اشهر قليلة قوة عسكرية تزيد عن مئة الف مقاتل مزود بأسلحة متوسطة وبقيادة مستقلة عن الجيش العراقي الذي تقلصت قوته القتالية الى اقل من خمسين الف جندي. وأصبح الحشد عملياً جيشاً مرادفاً للجيش الرسمي على شاكلة الحرس الثوري الايراني، واداة حسم في حال اي صراع قد ينشب في صفوف «التحالف الوطني» الشيعي. واستعجال الحشد اقتحام تكريت قبل استكمال «الحرس الوطني»، وعدم تلبية طلب ابناء المحافظات العربية السنّية تشكيل وتسليح قوى محلية للدفاع عن محافظتهم، جعلت واشنطن ترفض التعامل مع الحشد او توفير غطاء جوي له. فإيران حققت من خلال بوابة «داعش» كسباً سياسياً واعلامياً كبيراً في الشارع العراقي الشيعي وادعت بأن لها الفضل في عدم سقوط بغداد واربيل بيد «داعش»، وعلقت صور رموز ايران العسكرية والسياسية في شوارع بغداد والمحافظات الشيعية. وانعكس الزهو الايراني في تصريحات مسؤولين ايرانيين، منها قول علي يونسي (7/3) مستشار الرئيس الايراني حسن روحاني لشؤون القوميات والأقليات الدينية، إن «إيران، اليوم، أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتها وثقافتها وهويتها». وعلى رغم التراجع وانتقاد اوساط ايرانية لهذا التصريح، فإن رئيس تحرير وكالة «مهر» الايرانية حسن هاني زاده كتب (12/3) تحليلاً بعنوان «الوحدة بين ايران والعراق لا بد منها»، قائلاً: «لقد آن الأوان ان يقول الشعب العراقي كلمته الاخيرة وان يختار بين العروبة المزيفة الجاهلية والاسلام الحقيقي وينفض ثوبه من تراب الذل العربي». وأضاف ان «الغالبية في العراق معروفة بانتمائها العقائدي الى مذهب اهل البيت عليهم السلام وهذا هو السبب الرئيس لعداء الانظمة العربية ولا سيما الدول العربية المحيطة بالعراق تجاه هذا البلد». لكن تعثر العمليات العسكرية في استرجاع تكريت وتصريح بعض العسكريين العراقيين بالحاجة للدعم الجوي الاميركي يعد نكسة لمن اراد الاستئثار باسترجاع تكريت، وقد تسقط تكريت مستقبلاً لكن مستقبلها سيكون اشبه بكوباني الكردية في سورية، وتبقى الموصل التي هي أضعاف مساحة وسكان تكريت أكثر صعوبة بل استحالة من دون غطاء جوي فاعل، فكوباني سقطت بعد ما يقرب الفي ضربة اميركية جوية. كما ان تحركات الحشد في كركوك والمناطق المجاورة لها، أثارت مخاوف اربيل فصرح مسرور البارزاني (رئيس الاستخبارات الكردية)، (16/3) بأن الحشد الشعبي قد يصبح اخطر من تنظيم الدولة الاسلامية. واميركا باعتمادها استراتيجية الصبر وعدم التدخل بقوات برية، اعطت ايران فرصة للانفراد بالعراق، وكشفت في الوقت ذاته جوانب الضعف لدى الحشد وايران التي تخشى استنزافها في المستنقع العراقي. والعراق سيبقى ينزف بما يجعل خيار التقسيم حقيقة، فالاحزاب الشيعية وايران قد لا تجد فائدة من استرجاع المحافظات العربية السنّية لتكتفي بالسيطرة على المناطق التي يقطنها الشيعة او المجاورة لبغداد ولتصبح قيادات «الحشد» على رأس حكومة الاقليم الشيعي بدلاً من حكام بغداد الحاليين. ويصبح بذلك استقلال اقليم كردستان واقعاً وليس طموحاً، فالبشمركة كما اكد رئيس اقليم كردستان غير مرة (15/3) تقاتل فقط في الاراضي التي تعتبرها كردية. وبذلك يتم تطويق «داعش» وانهاكه بانتظار ان ينهض ابناء المحافظات العربية السنّية لملء الفراغ وإقامة كيانهم. ورحم الله العراق العربي.