يُقال إن عشرات الأعمال الروائية قُدِّمت إلى جائزة «البوكر». ولعله أمر طبيعي بعدما أصبحت الرواية حاليا ما كان الشعر للأدب في القرون الماضية. وليست هذه ظاهرة عربية فقط، ففي أنحاء العالم يتجه الأدباء والكتّاب إلى الرواية على أنواعها لأنها الأكثر انتشارا ومردودا ماديا ومعنويا معا. ونلاحظ من الجوائز العالمية الكبرى، أنها تذهب في معظمها إلى روائيين، ونادرا ما يحظى بها شاعر، بعدما قل عدد الشعر والشعراء، ولم يبق من مشاهيرهم سوى القلّة والندرة. غير أن ما يؤسفني في هذه الظاهرة الطبيعية عندنا ليس فقط غياب الشعر، بل غياب فن، أو علم آخر بالغ الأهمية، هو النقد. وربما كان الدور الذي يلعبه النقد في الحياة الأدبية هو الأكثر تشجيعا وتقويما للنتاج والأعمال. وقد تميّزت الحقبة الماضية بعدد وافر من كبار النقاد والأساتذة العرب في مصر والمغرب ولبنان، وخصوصا في فلسطين. وكان من أبرز تلك الأسماء الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد يوسف نجم أستاذ الآداب العربية في جامعة بيروت الأميركية. وفي كتابه «فن المقالة» يقول الدكتور نجم في مقدمة الطبعة الثانية، إنه بعد مرور أربعين عاما على الطبعة الأولى، لم ير بحثا أو دراسة أو عملا نقديا يستحق أن يُضاف، أو أن يُذكر أو أن يُعاد إليه. وقال إن معنى المقالة نفسها قد تغيّر وصار المقصود بها المقال الصحافي السريع، وليس كما كانت في الأساس مطالعة أدبية أو دراسة علمية لعمل أدبي. عمالقة الأدب في الحقبة الماضية كانوا أيضا عمالقة في منهج النقد الأدبي. وفي ذكر بعض الأسماء ظُلمٌ لمن لا نذكر. بدءا بالعقاد وطه حسين ومحمد شكري عيّاد وسلامة موسى ومارون عبود ولويس عوض ومحمد مندور وشوقي ضيف وأنور عبد الملك وسهيل إدريس والشيخ عبد الله العلايلي، وبقية الكوكبة الكبرى. حذت الحركة النقدية العربية حذو حركة النقد في الغرب من حيث المنهج العلمي، وحافظت على معايير في منتهى الرقي والموضوعية. وتجرد كبار النقاد من صغائر العقد وصغائر المشاعر. ولذلك، ظلت أعمالهم إلى اليوم دروسا كلاسيكية في تقاليد الأدب. وربما يدين كثير من الأدباء الكبار لأولئك النقاد في تخليد أعمالهم وإعطائها ما تستحق من مكانة في أذهان الناس والقرّاء. من هنا تلعب لجان الجوائز مثل البوكر دورا أساسيا في إعطاء الأعمال الجديدة ما تستحق من أهمية. وثمة أعمال كثيرة تستبعدها اللجان من النظرة الأولى باعتبارها لا تستحق حتى تلك النظرة. ومثل كل ظاهرة في كل مكان، لحقت بالأعمال الروائية المتكاثرة، أمواج من الإسفاف والتبذّل. وهذه ظاهرة لا يمكن وقفها بأمر أو مرسوم. لكنها تتكفل، مع الوقت، بتصفية نفسها، بحيث لا يبقى في النهاية سوى المستحقين أو المستحقات. وثمة الكثير من التبذّل والتقليد والتسرع والخفة في عالم النثر الروائي مما يسيء في نهاية المطاف إلى هذا النوع الجميل من العطاء الأدبي. ليس من السهل أن يتكرر في عالم النقد رجال مثل محمد يوسف نجم وإحسان عباس وهشام جعيط (تونس)، ولكن ليس من الطبيعي أيضا أن تُحرم الحركة النقدية من الأعلام الكبار. والأدب مثل سائر الفنون حلقة واحدة: العمل الكبير يستدعي النقد الكبير. ولست أدري من منهما يدفع بالآخر قدما أكثر من الثاني. لكننا مثل مقارنات كثيرة بين الحاضر والماضي، نشعر بحنين وحاجة إلى زمن إحسان عباس ومحمد يوسف نجم ومحمد عابد الجابري وصادق النيهوم وعبد الرحمن بدوي. وتحية إلى جميع الكبار. *نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"