2015-10-10 

«الأردن الكبير»... والدرس اللبناني

حازم الأمين

قال الكاتب الأردني فهد الخيطان، في سياق تحفّظه عن مقولة «الأردن الكبير»: «لا نريد أكثر من الأردن»، وذكّر الخيطان أصحاب المقولة بالتداعيات المُدمّرة لـ «مقولة موازية» عن «حزب الله الكبير» بعد أن خرج الحزب من لبنان إلى سورية. لكن الخيطان ليس الصوت الوحيد الذي صدر عن وطنية أردنية معترضة على توسيع المهمة الأردنية لتشمل جنوب سورية وغرب العراق. ثمة أصوات أخرى صدرت عن وطنية أردنية أيضاً، لكنها وطنية مثلومة بشحنة شرق أردنية، ولا تخلو من نزق طائفي. فأن تكون متحمساً لقتال حزب الله في سورية، ومتحفظاً عن دور لبلدك خارج الحدود، فهذا يعني أنك تحب بلدك وتكره لبنان، وهذا داء مستفحل في اليسار العربي الذي لطالما شكّل لبنان تحدياً لمقولاته. هذا النقاش يصلح للتأمل بـ «المهمة الأردنية» بعد ظاهرة تسلّم الملك عبدالله الثاني الراية الهاشمية في عيد الجلوس السادس عشر. وهو نقاش صحي على كل حال، إذا ما قورن بغياب النقاش اللبناني حول مهمة حزب الله في سورية. ذاك أن مقالات قليلة معترضة على هذه المهة لا تعني نقاشاً. أما في الأردن، فالمهمة خارج الحدود لم تبدأ على نحو مباشر، ولم يتخطَّ جندي أردني الحدود بعد، ولعبة الرموز (استحضار الثورة العربية الكبرى والراية الهاشمية) ما زالت في مستواها الداخلي. والحال أن المملكة وجدت نفسها وسط فراغ سنّي كبير وهائل يعصف بالبادية الشمالية والغربية، وفي هذه الصحراء لا بد من نفوذ، وإلا تسرّب «داعش». لكن هذه المقولة تصلح أيضاً لاستخدامات أخرى: أليس حزب الله كان باشرها وارتدّت وبالاً عليه وعلى لبنان، وهنا يبدو تذكير الخيطان في مكانه تماماً. نعم، أدارت المملكة ما يعنيها من الملف السوري خلال السنوات الأربع الفائتة، على نحو أكثر حكمة ودراية مما أداره حزب الله. لم تذهب مع أحد إلى الأخير. أعلنت أنها جزء من الخيارات العربية، وأن النظام في سورية فقد أي شرعية، لكن ذلك لم يُملِ عليها خطوات ميدانية تُهدد استقرارها. أبقت على السفارة السورية في عمان، ولولا خروج سفير النظام بهجت سليمان، عن آداب العلاقات الديبلوماسية، لكان مقيماً حتى اليوم هناك. وفي مقابل ذلك، احتضنت المملكة فصائل سورية تقاتل النظام في الجنوب وصولاً إلى ريف دمشق. كان المطلوب ألا تُهزم هذه الفصائل، ولكن ألا يسقط النظام قبل تبلور بديل غير مُهدِّد لاستقرار المملكة. فعلت المملكة ذلك مستفيدة من رعاية أميركية لهذه الوجهة. وفعلته أيضاً مُدركة أنه لا بد من صيغة للتعامل مع ترنّح النظام في دمشق. فأحياء قليلة في عمان تفصل بين مقاه يتجمّع فيها معارضون سوريون للنظام، ترعاهم أجهزة المملكة الأمنية والسياسية، عن السفارة السورية التي تتولّى تصريف الأعمال القنصلية لعشرات آلاف من السوريين اللاجئين. هذه الواقعية المفرطة، كانت حصيلة خبرات تحصّلت من تعامل الأردن مع موجات النزوح الهائلة التي عصفت بعمان منذ إعلان إمارة شرق الأردن. النزوح السوري هو النزوح الرابع، إن لم يكن الخامس. نزوحان فلسطينيان كبيران قي 1948 و1967، ونزوح عراقي في 2003، والنزوح السوري اليوم. وتخلّلت هذه النزوحات الكبرى نزوحات صغرى، كنزوح الإخوان المسلمين السوريين إلى عمان في 1982 وهو بلغ عشرات آلاف العائلات، ونزوح الفلسطينيين من الكويت في 1991، والذي تجاوزت كتلته البشرية مئتي وخمسين ألف فلسطيني. إذاً، القول إن عمان لا تتّسع لمشروع «الأردن الكبير» صحيح، لكنه غير واقعي. فوظيفة الأردن لطالما كانت أكبر من الطموح «الوطني» في العيش في مملكة هذه حدودها. المنطقة لطالما طافت على المملكة من دون رغبة هذه الأخيرة، وكانت مهمة الدولة العميقة هناك امتصاص هذه الطوفانات من دون أوهام تضخم الدور. اليوم، ما تغيّر ليس تضخماً في شعور المملكة بنفسها وبقدرتها، فالانتقال من الدور الاستيعابي إلى المبادرة خارج الحدود ربما أملته معطيات مختلفة، تتعلّق بالمهمة الأردنية نفسها. وأن يذهب العاهل الأردني إلى البادية ليعلن منها أن حماية العمق العشائري الشرقي والشمالي هي مهمة القوات المسلّحة أيضاً، فهذا ليس إعلاناً لتجاوز الحدود، على نحو ما أعلن حسن نصرالله تجاوز الحدود اللبنانية، إنما التذكير بأن التوازن خارج الحدود جزء من أمن المملكة، وأن ما يتقدّم في أولوياتها هو مصلحتها في حدودها الراهنة، لا أكثر. في عمان، تسمع من يقول لك أن لا مستقبل للنظام في سورية، وأن السلطات تتعامل مع هذا الأمر بصفته حقيقة وواقعاً، لكنك تسمع أيضاً أن لا مصلحة لأحد بأن يسقط بشار الأسد قبل تبلور بديل، وقبل وجود خيار لما بعد السقوط. لكن يبدو أن عمان أدركت أخيراً، احتمالات دراماتيكية سورية. فهي تشعر أن النظام في سورية يُخلي بإرادته الساحة لـ «داعش»، وهو استهدفها بانسحابه من تدمر، حيث أصبح «داعش» على بعد نحو 15 كيلومتراً عن الحدود مع الأردن. العدة الرمزية التي استحضرت في احتفالات عيد الجلوس، تؤشّر إلى أن الحديث عن المهمة خارج الحدود يهدف إلى التعامل مع هذا الاحتمال، لا إلى وهم «الأردن الكبير». «الراية الهاشمية» و «الثورة العربية الكبرى» في مواجهة تحديات «الخلافة» وراياتها وإغراءاتها. المتغيّر أن النظام يمكن أن يهوي من تلقائه، لا سيما في مناطق على الحدود مع الأردن، وهي تبلغ نحو 385 كيلومتراً. وعمان مختبر معلومات على هذا الصعيد، وهي تتحوّل بفعل الواقعية المفرطة في المملكة إلى برامج عمل منزوعة من مؤشرها العاطفي ومضامينها القيمية. تدرك الدولة الغامضة في عمان، أن الدفع بـ «داعش» إلى الحدود مع الأردن هو من الأسلحة الأخيرة للنظام في سورية، وهذا أمر لم يكن جزءاً من المعادلة التي أقامتها معه منذ بداية الثورة في سورية. ومثلما تحوّلت إلى وعاء لاجئين طاف على موقعها وعلى حجمها، لا بد من الاستعداد لطوفان آخر وشيك سيحمل للأردن، إذا لم يستعدّ له، حملة الرايات السود. المسألة هنا مختلفة تماماً عن اجتياز حزب الله الحدود اللبنانية. الحساب الأردني هنا يتقدّم الوظيفة الإقليمية للمملكة.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه