لم يعد الإرهاب يحارب حاضرنا ومستقبلنا فحسب، بل صار يدمِّر تاريخنا أيضاً. الجريمة البشعة التي استهدفت مدنيين في متحف «باردو» في تونس كرّست الهدف الثالث، فضلاً عن أنها جمعت الأهداف كلها، البشر والاقتصاد والتاريخ. تدمير المتاحف والآثار بهذه الهمجية، زاد تشويه صورة الإسلام في نظر الآخرين. من أين جاء هؤلاء الإرهابيون بهذا الموقف المتوحّش إزاء الرموز الحضارية والآثار؟ بعض الفقهاء يرى أن الإسلام حرَّم التماثيل والصور المجسّمة، لحرصه على حماية التوحيد، وعدم المسّ بالعقيدة. ويستند هؤلاء إلى تحطيم المسلمين التماثيل حول الكعبة وداخلها، يوم فتح مكة. على رغم أن تحطيمها في ذلك اليوم كانت له دواعٍ آنيّة، للتَّسليم بما هو واقع، بدليل أن الفتوحات الإسلامية بعد ذلك لم تتعرّض للآثار، وأشهرها آثار مصر وأفغانستان والهند. الدكتور محمد عمارة له رأي مهم في هذا الموضوع، وهو يلاحظ أن للقرآن الكريم مواقف متعددة إزاء التماثيل، أو الآثار، ففي عصر النبي سليمان جعل القرآن صُنْعَ التماثيل نعمة من نِعَم الله على سيدنا سليمان. ويدلِّل على هذا الرأي بالآية التي وردت في سورة سبأ (الآية 13): «يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ». لكن هذا الموقف، وفق عمارة، تغيَّر في عصر سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، بعد أن أصبحت التماثيل تُعبد من دون الله. تكرَّر ذلك عندما كانت الوثنيّة العربية الجاهلية تتّخذ الأصنام والتماثيل معبودات. ويخلص عمارة الى أن موقف القرآن من الآثار «يتعلق بالمقاصد إزاء هذه التماثيل». موقف عمارة يتطابق مع رأي الشيخ محمد عبده الذي يعتبر أن الآثار لا تمثل خطراً على عقيدة التوحيد، وهي جزء من الذاكرة التاريخيّة للشعوب. أُم المؤمنين السيدة عائشة، تروي في الحديث أنها اشترت «نمطاً»، نسيجاً، من صوف، أو بساطاً عليه صورة، والصورة في العهد النبوي تعني صورة الصنم المعبود، وهي اشترت قماشاً عليه صُوَر، علّقته على نافذة في منزل النبي، لكنه عليه السلام كَرِهَ الذي صنعته عائشة. فقال لها الرسول: «أميطي عنا قِرَامَك هذا، فإن تصاويره لا تزال تُعرض لي في صلاتي»، أي أن الصُّوَر كانت تشغل النبي وهو يصلي. فقامت أُم المؤمنين بتقطيع الستارة التي تحمل صور الأوْثان، وجعلت منها وسائد يتكئ عليها رسولنا. بعض الفقهاء يفسِّر فعل رسولنا الكريم بأنه استخدمها للامتهان. لو كان الرسول الكريم يريد امتهانها، بهدف التحريم، لوجد للامتهان طريقة أبلغ من الاتكاء عليها. لا شك في أن فقهاء وتابعين أحلّوا اقتناء التماثيل التي تُستخدم للزينة، وبعضهم صنع التماثيل ومارس النحت والتشكيل. والسيدة عائشة تروي في الحديث فتقول: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وأنا ألعب بالبنات أي تماثيل البنات، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: خيل سليمان، فضحك». الأكيد أن الحضارة التي صنعت قصور الأندلس لم تكن بدعة، فضلاً عن أن المسلمين نقلوا فنونهم في النحت والعمارة، وجسّدوها في تلك القصور. اليوم، ينقل الإرهابيون معاولهم لهدم ذاكرتنا المشرقة، بعد أن دمّروا صورتنا الراهنة. *نقلاً عن صحيفة "الحياة"