2015-10-10 

الفن العثماني بين الخوف والإلهام

بي بي سي

اختلفت الطريقة التي رسم بها الغرب، الإمبراطورية العثمانية فالبعض اعتبرها عدوًا رهيبًا ورأى الصورة النمطية للتركي المتوحش الضاري والبعض الآخر اعتبرها جنة ذات ملامح مدهشة وغير مألوفة، ورسم التركي بكائن مسالم يمتزج طبعٌه بين السحر والفتنة والشهوانية بالترف. وتسبب في رسم الصورة السلبية ماعرف من قوة الجيش العثماني ودهشة العالم المسيحي بقدرته على اسقاط عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الرهيبة، فضلًا عن بلوغ السلطان سليمان القانوني اسوار فينا، بينما ساهم بشكل كبير في اسقاط تلك النظرة فشل الحصار العثماني لفينا وادعاء بعض فنانوا أوروبا بشهوانية الاتراك الجنسية . يحلل الكاتب آلستير سوك كيف تحولت الإمبراطورية العثمانية في أذهان الأوروبيين من مبعث للخوف إلى مطمح لهم، وكيف نجح الفنانون الغربيون على نحو بطئ وواثق من الخروج من فكرة أنها الرعب الآتي من الشرق يؤكد سوك أنّ الرعب من العثمانيين بدء في 29 مايو عام 1453، عندما سقطت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية المهيبة، في يد الجيش التركي، بعد حصار استمر سبعة أسابيع، وسماح السلطان العثماني المنتصر محمد الثاني، الذي لم يكن عمره تجاوز حينذاك 21 عاما، لجنوده بأن يعيثوا فسادا في أرجاء القسطنطينية ناهبين كل ما استطاعوا الوصول إليه. ويوضح سوك أنّ ميزان القوى في العالم تبدل وإلى الأبد إثر سقوط القسطنطينية، وكانت بمثابة ضربة كارثية للعالم المسيحي لاسيما حكام أوروبا. ويتابع بعد قرابة ثلاثة عقود، اجتاحت جيوشه العثمانيين مدينة أترانتو جنوب إيطاليا، وأعدموا أكثر من 800 من سكانها؛ ممن رفضوا تغيير ديانتهم واعتناق الإسلام، وبحلول عام 1529، بلغ الجيش العثماني تحت قيادة السلطان سليمان القانوني أسوار فيينا. ولفت هايدن ويليامز في كتابه الذي نُشر العام الماضي بعنوان "محاكاة الفن التركي: هوس أوروبي في القرن الثامن عشر" إلى أنّ تلك الأحداث أصابت أوروبا الغربية بصدمة. وأوحي صيت العثمانيين بأنهم أصحاب انضباط عسكري لا يرحم بظهور تعبير لغوي جديد بين الأوروبيين الخائفين منها، ألا وهو "خطر الترك"، أو "توركين غِفار" كما كان يردده الناطقون باللغة الألمانية. وتوكد الرواية التقليدية للتاريخ أنه لأمد طويل، استمرت حالة الشك المرضي إزاء العثمانيين، فخلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، كان العالم لا يزال بقعة مفككة الأوصال، مُقسمة بين الغرب المسيحي وعدوه الإسلامي الألد في الشرق، إلا أنّ دراسة حديثة أشارت إلى أن الفجوة بين الجانبين لم تكن عدائية على هذا القدر المفرط. وأكدت الدراسة أنّ أوروبا تبنت سيلا من الدعاية صوّرت العثمانيين – بعد استيلائهم على القسطنطينية - على أنهم كفارٍ همج، وعرضت الدراسة أدلة تفيد بأن تلك الفترة شهدت افتتانا أوروبيا متزايدا بالإمبراطورية العثمانية، أثاره الدبلوماسيون والتجار المغامرون وكذلك الفنانون، ممن زاروا القسطنطينية وشهدوا ملامح الثقافة التركية بأعينهم. وتحت عنوان "عالم السلطان: المشرق العثماني في فنون عصر النهضة"، نظم معرض في مركز بوزار للفنون الجميلة في العاصمة البلجيكية بروكسل، يهدف إلى استُكشفت الكيفية التي حدث في إطارها التلاقي بين الإمبراطورية العثمانية وحقبة عصر النهضة الأوروبية وتوضيح أبعاد تلك الروح التي يمتزج فيها الفضول والاحترام بالرغبة في التبادل والتفاهم. ونشأت صلة بين العالمين قبيل نهاية القرن الخامس عشر إذ أصبح جنتلي بيلليني، أحد الرسامين المعتمدين لدى البندقية وبلاط السلطان محمد الثاني والذي طلب من دوق البندقية أن يرسل إليه نحاتا وفنانا في مجال المسكوكات البرونزية بوسعه إعداد ميداليات ذات ذوق رفيع. وفي عام 1479وصل بيلليني إلى القسطنطينية مع ابن مدينة بادوفا الإيطالية؛ النحات بارتولوميو بيللانو، رسم بيلليمني خلال فترة إقامته في القسطنطينية لوحة تصور أحد مناظر مدينة البندقية، بغية أن تطالعها عينا السلطان، فضلًا عن لوحات شخصية لأفراد في البلاط السلطاني والميدالية البرونزية التي سكّها بيلليني للسلطان محمد الثاني، والتي لا تزال باقية حتى الآن. وخطت ريشة بيلليني عددا من اللوحات كبيرة الحجم التي تصور سكان المدينة، والتي وثّقت للقراء الأوروبيين، الأنماط المترفة والمزخرفة للأزياء التركية. وفي مقدمتها لوحة تُظهر جنديا ينتمي لقوات الانكشارية، وقد كان ذلك الجندي من قوات الصفوة، ويتولى مسؤولية تأمين السلطان وأظهرت اللوحة الجندي وهو في وضع الجلوس مرتديا قبعة طويلة على نحو مميز. وداخل المتحف الوطني المعروف باسم "ناشيونال غاليري" في لندن يشاهد الزوار لوحة شخصية رسمها بيلليني عام 1480 للسلطان محمد الفاتح وهو يجلس خلف قوس ومتراس حجرييّن، مُرتدياً عمامة ضخمة بيضاء اللون، يتناقض حجمها مع ملامح وجهه النحيل أسفل تلك العمامة. وتبدو أنف السلطان معقوفة على نحو لافت، ومستدقة الطرف إلى حد يجعلها متناغمة مع لحيته المرسلة. وعلى جانبي اللوحة من الأعلى، تتراص في الأفق ستة تيجان ذهبية تشير إلى الممالك التي غزاها. ويؤكد المسؤول عن تنسيق معرض "عالم السلطان" غويدو مِسلينغ، تعد هذه اللوحة أمرا غير مسبوق في السياق العثماني ومن المؤكد أن السلطان محمد الثاني أمر برسمها تخليدًا لصورته حتى تتمكن الأجيال القادمة من رؤيتها. وأوضح مسلينغ أنّ لبيلليني تأثير قوي على فناني الرسوم المصغرة (المنمنمات) العثمانية التي ظهرت بعد ذلك. وبدءت تصورات الأوروبيين بشأن الأتراك ستتخذ - بعد ذلك - وعلى نحو متزايد، طابعا مشوبا بأجواء الشهوانية والإثارة الجنسية لاسيما عام 1568 بسبب مزاعم نيكولاس دي نيكولاي بأنه رسم لوحات أولية "اسكتشات" لعدد من سكان أسطنبول "كما هم، وكما رأيتهم، مُقدماً إياهم في لوحات شخصية ذات سمات طبيعية. ولكن دي نيكولاي الذي كان جغرافيًا في بلاط هنري الثاني ملك فرنسا، استعان في حقيقة الأمر، بعاهرات ليكُنّ بطلات للوحاته. وبعدما فشل الحصار العثماني لفيينا عام 1529، بدأت مخاوف الأوروبيين من التهديد التركي في الانحسار، وفي الوقت ذاته، بدأت الصورة التي يُقدم بها العثمانيون في الثقافة الأوروبية في التغير بدورها. يقول غويدو مِسلينغ: "في الوقت الذي أجبر العثمانيون على التقهقر وأصبح خطرهم أقل حدة، شعر الأوروبيون بأنهم أكثر أمنا، وهو ما جعل من الأيسر عليهم تكوين تصورات وتخيلات بشأن العثمانيين، وزادت الأهمية التي تكتسي بها صفاتهم وخصالهم التي بدت مدهشة للأوروبيين، نظرا لغرابتها. واهتم فنانو عصر النهضة بالبُسط الشرقية والتي يمكن بسطها على الأرض، أو تعليقها على الجدران، وتحتوي على طابع زخرفي وجمالي في غالب الأمر. ومن بين هؤلاء الفنانين هانز هولبين الأصغر، الذي وجد في هذه البُسط إمكانيات تصويرية تكمن في تصميماتها البراقة المفعمة بالحيوية، خاصة تلك التي تنطوي على سمات جذابة بشدة، ومثيرة للمشاعر. بجانب ذلك، شكلت البسط والسجاجيد وسيلة فعالة لإيضاح مكانة الأشخاص الذين يتم تصويرهم في اللوحات الشخصية. ومن بين الأمثلة الجيدة على ذلك، ذاك البساط المزخرف الشهير الذي ظهر في لوحة "السفيران"، التي رسمها هولبين عام 1533. فاللوحة تُظهر بساطا شرقيا من الصوف الثقيل موضوعا على طاولة تهيمن على صدر المشهد فيها. وقد رُسمت اللوحة احتفاءً بمؤتمر "سومرست هاوس" عام 1604، ولكنها أُنجِزت بعد 70 عاما كاملة من عقد هذا المؤتمر. وبدأ في أوروبا إنتاج ساعات شمسية مزينة بشخصيات ذات طابع تركي واستخدام النسيج العثماني الغني بالنقوش في حياكة الثياب التي يتم ارتداؤها خلال الطقوس الدينية المسيحية. وصور الإمبراطور الروماني المقدس ماتياس، شخصيا في لوحة رُسمت بين عاميّ 1611 – 1612، وهو يرتدي قفطانا عثمانيا فاخرا منسوجا من الحرير على شكل طاووس، وهو ما عكس نمط الزي الذي كان سائدا في تلك الحقب. ويقول هايدن ويليامز في "تبدلت الصورة النمطية للتركي المتوحش الضاري إلى (صورة) كائن مسالم بشكل أكبر،" وهو كائن يكمن في داخله طابعٌ يمتزج فيه السحر والفتنة والشهوانية بالترف.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه