للمقالة السياسية تأثيرها، حتى وإن بدت في كثير من الأحيان وكأنها تنتمي إلى نمط صحافي مهجور، لكلاسيكيته أولا، وثانيا للتدفق الهائل في المعلومة، بحيث لم يعد المتلقي يجد الوقت الكافي لتحليل هذه المعلومات، أو تقويمها، لكن مع ذلك يبقى للرأي السياسي حضوره في الصحافة، ومتى ما ارتهنا إلى أشهر النظريات الإعلامية التي ترى في الصحافة فضاء عاما لتبادل الأفكار والأراء، فإنه لا شك أن الرأي السياسي من أبرز مكونات هذا الفضاء، وأكثرها قدرة على صياغة اتجاهات جديدة نحو قضايا معينة، أو تعديل وتغيير الاتجاهات القائمة. محلياً تأخر ظهور الرأي السياسي، وهو الأمر الذي يرجعه عبدالعزيز الخضر في كتابه (السعودية سيرة دولة ومجتمع) إلى حساسية هذا المجال، وتشدد الرقيب، إذ كانت المقالة السياسية تخضع لرقابة شديدة، سواء أكان الرأي في قضايا إقليمية أم دولية. ولهذا ظلت الصحافة السعودية لفترة طويلة تقدّم أراء باهتة لكتاب هواة، وأكاديميين تصدّروا طلبا للوجاهة، مع استثناء افتتاحية يوسف الكويليت لصحيفة الرياض، الذي تمكّن من تقديم خطاب مستقر ذي ملامح محددة لأكثر من عقدين، كما يشير الخضر. ومع انتعاش الصحافة الخارجية في سبعينات وثمانينات القرن المنصرم، والاستقطاب السياسي الذي ساد تلك الفترة، بدأت الصحافة في العناية بالرأي السياسي، واستكتاب أسماء عربية لها ثقلها الكتابي، وغدت صفحات الرأي في مطبوعات مثل الحياة، والشرق الأوسط، والوطن بعد ذلك مقروءة بشكل واسع، حتى في أوساط التيارات المناوئة لهذه الصحف واتجاهها الفكري. وأهمية "الرأي السياسي" في الصحافة السعودية لا تقتصر على تصديره لكتاب صاروا نجوما في الإعلام السعودي والعربي، بل إنه يعد مصدرا مهما لرصد اتجاهات القارئ السعودي إزاء القضايا السياسية في العالم العربي، وهو ما يظهر في أنماط عدة من التلقّي، كالتعليق، والاستشهاد، والمشاركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ففي الموقف من تنظيم "الإخوان" مثلا، يمكن بسهولة تحديد الموقع الإيدلوجي لقارئين يستشهد أحدهما بمقالات عبدالرحمن الراشد، ويستند الآخر إلى مقالات جمال خاشقجي، وهكذا في باقي القضايا، وسنستعرض هنا بشكل (انطباعي) أبرز أنماط الرأي السياسي في الصحافة السعودية: أولا: الرأي التحليلي، وهو الرأي الذي يعتمد على التوثيق، والإحالة، والبدء بالمقدمات للوصول إلى نتائج، يمكن وصفها بالموضوعية، ونجد هذا النوع من الرأي عند كتاب مثل خالد الدخيل، وعلي العميم، ومشاري الذايدي، وسلطان العامر، وسعود كابلي. هذا الأسلوب في كتابة الرأي يقدم المعلومة مع ربطها بسياقاتها التاريخية، ويعلّل أحكامه، ولهذا يميل كتابه إلى الإسهاب، والتقسيم، وعلى الرغم من المزايا الكثيرة لهذا الأسلوب في التثقيف، وبناء فكرة متماسكة، إلا أنه يسقط أحيانا في البرود، والمحاكمة إلى أسبقيات أكاديمية، كما نرى عند الدخيل، وربما تحوّل إلى هوس بالتفاصيل والاستطراد، على نحو ما نرى عند العميم، وفي أحيان أخرى يصبح مجرد وسيلة لتثبيت مواقف معينة، كما نرى في مقالات العامر وكابلي. بقي أن نشير إلى أن الذايدي مال في الفترة الأخيرة إلى المباشرة، لسبيين: أولهما: انتقاله للصفحة الأخيرة، والكتابة اليومية التي لا تتيح مجالا للرصد والتحليل، وثانيهما: تسارع أحداث الربيع العربي، وحضوره كطرف يناضل عن مواقف سياسية معينة، وهو ما دفعه إلى المباشرة والتقريرية، ونأى به عن التحليل والرصد الموضوعي البارد. ثانيا: الرأي المباشر، وهو الرأي الانطباعي الذي يرسل الأحكام بلا تعليل "غالبا"، ويخلص إلى النتائج مباشرة بدون مقدمات، كما يعمد إلى أسلوب "المفارقات" والتهكّم والسجال في تثبيت مقولاته، ونجد هذا النوع من الرأي عند كتاب مثل عبدالرحمن الراشد، وطارق الحميد، ومأمون فندي، وداود الشريان، وعبدالله بن بجاد. هؤلاء الكتاب غالبا يصدرون عن مواقف سياسية معروفة مسبقا، وهم لا يكتبون لتبريرها، بل للدفاع عنها، وليس الأمر هنا متعلقا بالتداخل بين المجالين السياسي والإعلامي فقط، كما يشير نعيمان عثمان في كتابه الماكر "بؤس الصحافة ومجد الصحافيين" بل هناك عدة مسوّغات تعطي هؤلاء الكتاب الحق في إطلاق أحكامهم، وتجعل القارئ يتقبلها على الرغم من إغفالها للتعليل، منها: 1: اعتماد الكتاب على خبرة سابقة في الكتابة السياسية سواء كانت صحافية وأكاديمية، كما نجد عند عبدالرحمن الراشد وطارق الحميد، ومأمون فندي، أو كانت في مجال من المجالات المتصلة بالشأن السياسي، على نحو ما نرى عند عبدالله بن بجاد الذي استثمر ماضيه الإسلامي، في الكتابة عن الجماعات الإسلامية. 2: تمثيل هؤلاء الكتاب لمواقف معينة، وبالتالي فإن القارئ الذي يتبنى ذات المواقف، يتابع كتاباتهم لتعزيز أرائه، ودحض الأراء الأخرى التي تتعارض معها. ثالثا: الرأي المصدري، وهو الرأي الذي يعتمد في بنائه على النقل من مصادر سياسية، بحيث تأتي تصريحاتها غالبا متوافقة مع ما يريد أن يصل إليه الكاتب حول القضية المعينة. هذا النوع من الرأي نجده عند كتاب مثل جهاد الخازن، وهدى الحسيني، وعادل درويش. ولعل أكثرهم اعتمادا على المصادر جهاد الخازن، فهو يكثر في مقالاته من النقل عن (أخيه) فلان من الوزراء والرؤساء، وهذا النوع من الكتابة يتناسب كما يرى نعيمان عثمان في كتابه سالف الذكر مع تعالي الخازن في نظرته إلى أحداث المنطقة، كما أنه يوحي إلى القارئ بأن الكاتب إنما يستقي معلوماته من مصادرها الأولى، لا من الإعلام والصحف الغربية، كما يفعل باقي أقرانه. رابعا: الرأي الفني، وهو الرأي الذي يعتمد فيه الكاتب على الأساليب البلاغية، ويمزج فيه بين الجانب الصحافي والأدبي، على نحو ما نرى عند غسان شربل، وسمير عطاالله، وعثمان العمير، وإلى حد ما جمال خاشقجي. هنا لا تصبح الكتابة مجرد وسيلة لإيصال أفكار معينة، ولا الكلمات أداة، بل هي أشياء قائمة بذاتها، وفقا لتعبير سارتر الشهير عن الكتابة غير الملتزمة. في هذا الأسلوب يعبر الكتاب بطريقة غير مباشرة، عن أفكارهم، وباستخدام الكثير من الاستعارات والمجازات، معتمدين على حس أدبي، وقدرة كبيرة على ترويض الكلمة. تلك هي الأنماط السائدة في الرأي السياسي، ولاشك أن التقسيم السابق ليس نهائيا، بل هو مبني على الغالب من مقالات الكتاب، وبعضهم يمكن إدراجه في أكثر من نمط، كما رأينا في حالة مشاري الذايدي، كما أنه يمكن تسجيل ملاحظة، وهي أنه كلما ارتفاع منسوب الإيدلوجيا عند كاتب ما، ابتعد عن التحليل، ودنا من المباشرة والتقريرية. ولعلك تسأل الآن أي الأنماط أفضل للقارئ، وأعود عليه بالفائدة؟ يصعب التحديد، فكلها قابلة لأن تقرأ، ويستفاد منها، وكلها تؤثر في القارئ، لكني شخصيا أميل إلى خليط مقالي من رصانة الدخيل، وسجالية الراشد، وشاعرية العمير، وشربل. وهو اختيار شخصي لا ألزم به أحدا.