حين يرحل عالم تنطفئ نجمة في السماء ذات الحُبُك. وهكذا طوى الزمن، العالم الكوني الكبير ستيفن هوكينغ، الذي كنت أراه رأي العين في ممرات مدينة كيمبريدج، خلال سنوات الدراسة هناك.
أتذكر اللقطة الأخيرة التي التقطتها له ذات مصادفة في أحد أسواق المدينة، كأنها تحدث أمامي الآن، ومن لقطة الصورة تلك، تتحرك في الذاكرة عشرات الصور، عن الرجل الذي تفوق على كل شيء.
تذكرت اللحظة الأولى التي رأيته فيها.
تجمدت في مقعدي تلك الظهيرة الوادعة في "كيمبريدج"، المدينة الإنجليزية الهانئة، التي يسبّح فيها النهر بحمد رب النهر، وتسبّح فيها الشمس بحمد رب الشمس، ويسبّح فيها العلم بحمد رب العلم.
تجمدت لأن ستيفن هوكينغ مر أمامي مدفوعاً على مقعده المتحرك، دون أن أتمكن من اللحاق به، أو أن أثبت الصورة في مخيلتي جيداً، ومن دون أن ألمس بأصابعي ذلك الشعاع الذي أقتحم الكون ووصفه وتخصص فيه، رغم انه لا يقوى حراكاً ولا يتكلم إلا همساً عبر وسيط إلكتروني.
لقد تجمدت أمام رهبة العالم، وقداسة العلم، وطافت في مخيلتي الحياة التي عشتها، وتأثرت بها، مسيرة من مشاهد متلاحقة، مسرحها العالم العربي الكبير، وأبطالها أنا وأفراد من جيلي.
كنت أتمنى أن أستوقفه لحديث سريع، كي اخبره، وهو الفيزيائي الذي قلب فكرتنا عن الكون والعالم، أنني عرفت شيئاً جديداً، وأنني تأكدت بأنني صغيرٌ أمام العالم الأكبر، وأنني لست الوحيد التائه فوق هذه الكرة الكونية، بل إنني واحد من ملايين الشباب، والشيوخ، من أولئك الذين لا يعرفون إلى أن يقودون أنفسهم، وأين يقادون. ملايين في عالم العرب سلموا أنفسهم للماضي بأكثر مما يتحمله الماضي نفسه، وآثروا الهروب من الحاضر، لأن الأمان في الجداول الهادئة، وليس في المحيطات المتحركة.
أقول ذلك لأنني سألت نفسي: ماذا لو عرف أصدقائي الكتاب والصحافيون هوكينغ حق معرفته؟ كيف سيكون شكل حياتهم، عقولهم، وأفكارهم؟.
إنني متأكد أن معرفته ستجعل الكاتب المشرقي، يعرف أن الكون ليس ضفة واحدة، بل ضفاف، وأن مئات الألاف من الأجرام تنير السماء في وقت واحد. جميعها تكوّن مشهداً جميلاً. لا تطرف ولا إقصاء ولا عداء.
لا أقصد ضرورة معرفة هوكينغ لأنه هوكينغ، الشخص والشخصية، بل لأنه صورة من صور العلم ذاته، الذي أعتبره تعويذتنا في هذه الحياة، وما عداه ليس سوى عبور وجل، فوق جسور عابرة.
تمنيت لو كان صديقي المشرقي الصحراوي يعرف سمو العلم، والثقوب السوداء، والأكوان الطفلة، وإشعاع هوكينغ، ليخرج من نطاق مواضيعه "ذات النطاق"، إلى ذلك العالم الأرحب، الأكبر، الأوسع. إلى السماوات المفتوحة، إلى سلالم الكون، ومدرجات الملكوت.
هناك سنعرف أن العلم هو المستقبل الباقي، وعنوان النجاح الأبرز، وأن ستيفن هوكينغ أغمض عينيه غير مهتم بأي شيء آخر، سوى الأسرار التي قضى عمره كاملا للبحث عنها، وأخيرا ذهب إليها.