حين كنت طفلا ألهو بين جبال الجنوب، كان يأسرني ذلك المنظر البهيج، حين كنّا نسير بين أمواج باردة من الغيوم البيضاء. كنّا نضحك كثيرا مذهولين من هذا البياض الذي نعبره دون أن نتبلل، ودون أن نمسك به، أو نختبئ خلفه. كانت بهجتنا أن نقذف بالعلب الفارغة من أعلى قمة في الجبل، ثم ننتظر بلهفة ودهشة حتى تعود لنا بفعل التيارات الهوائية التي يتسبب بها علو الجبل فوق سطح البحر.
كل شيء كنّا نقذفه إلى الأسفل كان يعود إلينا بعد ثوان معدودة. كنّا نضحك بفرح طفولي على هذه الألعاب السحرية التي لم نجد لها تفسيراً ذلك الوقت، مثل معظم الاكتشافات التي يراها الأطفال. بقي المشهد في الذاكرة حتى حين، مثالاً لحدة الذاكرة الطفلة، وفضول المعرفة الشديد.
الآن، وبعد سنوات السنوات التي مرّت في العمر، وعلى الذاكرة، يخيل لي أن ذلك الجبل المنيف لم يكن إلا تجسيدا للحياة، وطابعها. نعم فلتقذف من فوق جبل الحياة ما تريد، ولكن عليك أن تعرف أنه سيعود إليك، وبذات المقذوف، وحجمه، وطبيعته، وخيره، وشره.
إن هذه الحياة لصدى لك. صرخة في كهف، تسمع صداها ولو بعد حين. إذاً فلتكن الصرخة أغنية جميلة تسمعها، أو كلمة جميلة تنقل عنك إلى الأبد.
وهذا هو شكل الحياة التي لابد أن تكون حولنا. لا تبالي بعمل خير لا يراه أحد، فهو سيعود إليك يوما ما في مكان ما ودون أن تتوقع. سترى حولك أشخاص تحاصرهم الأفكار الجميلة، والتفوق المستمر، والنجاحات الكبيرة. سيبدو لك الأمر لغزاً لا تعرفه. ستتفاجأ بأن مهارات بعضهم محدودة، وذكاءهم بسيط. لكنهم متفوقون رغم ذلك. عليك أن تتذكر الجبل، وصدى الكهف. انها ليست حياتهم فقط بل هي ديون الكون التي يسددها لهم القدر.
بهذه المعرفة نستطيع العيش في بيئة إيجابية متفائلة. سنشعر بأننا مجبرون للقيام بتصرفات حميدة، ليس من أجل محيطنا فحسب، بل لوثوقنا التام بأن هذه التصرفات ستعود إلينا، على هيئة إيجابية مختلفة.
هكذا سنتعلم الكثير: لا تفسد الحمام العمومي لأن لا أحد يراك، ولا تعبث بطاولة المكتبة العامة لأنها مجانية، ولا تقذف القاذورات في الحديقة لأنها مزدحمة. تأكد أن هنالك من يترصد، وسوف تعاقب في زمان ومكان لا تتوقعهما. كل ما تفعله هو دين سيحين وقت سداده دون أن تعرف.
والاهم من ذلك كله ان يكون محيطك كله عبارة عن واحة صفاء. هذا أمر تقرره أنت. إن هذا القرار يبدأ منذ اللحظة التي تستيقظ فيها، ومن خلالها تستطيع رسم خريطة يومك وحياتك ككل. جرب ان تغمض عينيك وتتخيل الألوان البيضاء تصبغ محيطك كاملاً. ثم أغمض عينيك متخيلا أن محيطك عبارة عن ضوء أبيض بلا نهاية.
هذا تمرين روحي بسيط لتنظيف المحيط ورسمه من جديد، ليكون أكثر صفاء وإيجابية.
من العقل تتكون الحياة. المحيط خيالك ورغبتك، فإذا رسمته بصدق وسلام ستراه ينعكس على روحك لتشرق، وليكن تعاملك مع الناس أفضل.
أكثر ما نحتاجه هو ثقافة الحياة وثقافة التعامل مع المحيط من حولنا. هذا هو علاجنا اليومي، والأهم أن نعرف، أن كل ما نقذفه من فوق الجبل سيعود إلينا، وكل ما سنقوله في كهف الحياة سنسمع صداه في آذاننا ولو بعد حين.