إن أكثر الأسئلة التي تدور بين المشتغلين في العمل الإعلامي في العالم العربي تتمحور حول مستقبل هذه المهنة، في ظل التطور التكنلوجي الكبير الذي يشهده العالم. لقد تم تبسيط الحوار حول المستقبل الإعلامي بوضعه في دائرة ضيقة، عبارة عن صراع بين: الصحف المطبوعة، والصحف الإلكترونية.
إن اختصار المسألة في صراع بين تقنيتين يعكس جزءا كبيرا من عدم فهم المسألة بشكل حقيقي، ذلك إنه يعني أننا لم نفهم بعد طبيعة هذا التطور الذي يحدث في العالم ككل. لم نستوعب أن التطور في مهنة الإعلام هو تطور للتقنيات الناقلة للمحتوى، وليس اختراعا جديداً يناقض المهنة نفسها.
لقد صور البعض محاولات التجديد في الإعلام، بأنه خروج عن المهنة نفسها، ولذلك حاربوه بضراوة. أن تغمض عينيك لا يعني أن العاصفة لن تمر بك.
إذا فهمنا أن التغيير في العمل الإعلامي يدور حول التقنيات التي تسوّق المادة الصحفية التي أنتجها صحافيون في المؤسسة ذاتها، فإننا سنتوقف فوراً عن استخدام كلمة الصراع، ونستبدلها فوراً بكلمة التطور. إنها مسألة تطور طبيعي للمهنة وتقنياتها، لا ينقطع اتصاله بالتطور الذي يعيشه العالم كله. لا يعقل أن تقبل جميع الاختراعات الجديدة التي تسهل حياتك، ثم تتوقف عند الصحف المطبوعة باعتبارها مكانا مقدسا لا يجب أن يطاله أي تغيير.
قضيت نحو 15 عاما في الصحافة الإلكترونية. أتذكر في البدايات كيف كانت الشكوك تحيط بمستقبل المواقع الإلكترونية، ومدى قدرتها على الصمود في مواجهة مؤسسات إعلامية ضخمة. لقد وصلت الشكوك إلى المعلنين أنفسهم الذين كانوا يرون بأن الإعلان في الصحف المطبوعة أكثر أهمية.
بعد مرور هذه السنوات تغير الوضع كثيراً. تفوقت صحف إلكترونية على مؤسسات عملاقة، وزادت نسبة الإعلانات في المواقع الإلكترونية. وأصبحت الصحف الكبرى التي كانت تنظر للمواقع بتهكم، تحاول النجاة الآن بأي طريقة.
إنها أزمة يجب أن يعتبر منها أصحاب المواقع الإلكترونية أيضاً. إنني أرى غروب شمس المواقع الإلكترونية، لصالح التقنيات الحديثة. إن المستقبل سيكون للأجهزة اللوحية وتطبيقاتها، وستتيح سرعة الاتصال الثورية G 5 زيادة سرعة التصفح، بما يجعل المستقبل مرتكزاً على كثير من الصور، وكثير من الفيديو.
إن المستقبل هو صحافة الفيديو اللوحية.
كيف أرى شكل مستقبل الصحافة المطبوعة؟
بالتأكيد لن تختفي، لكن وصولها لقرائها سيصبح أقل. دون خطوات تحول ذكي إلى عالم الديجيتال، والتطبيقات، فإنها ستغلق أبوابها بكل تأكيد. إن الورق لن ينتهي، لكن وجوده المعنوي سيصبح بلا فائدة. عليك ان تقرأ الخريطة البشرية لمعظم الدول العربية، وخصوصا الخليج، لتعرف إن هنالك جيل جديد يبحث عن المحتوى، الذي يستطيع أن يصل إليه بطريقته الجديدة.
إن صحافة الإنترنت قادرة على البقاء لأن تكاليفها أقل بكثير من الصحف المطبوعة، ولديها ميزة السرعة في نقل الخبر، وإمكانية إبقاءه حياً بالصورة الثابتة، والمتحركة، والصوت، والرسوم التوضيحية.
لدي مجموعة نصائح من قطبان صغير، يحاول التعلم في كل لحظة، أوجهها لمجموعة من الصحف التي أصبحت أشبه بالمراكب الغارقة، ولا تعرف وجهة الشاطئ بعد.
تخفيف النفقات مطلب مهم. المباني يجب أن تكون أصغر، وفريق التحرير أكبر. لا لكثرة المكاتب، نعم لكثرة المحررين. إن هذه هي اول إجراءات التخلص من الوزن الزائد كي لا تسقط الطائرة.
كذلك يجب تقليص أيام صدور النسخ المطبوعة، إلى أقل من 200 عدد سنوي كخطوة أولى. وعلى المنشور أن يكون له طابع المجلة لا أكثر. لا أحد ينتظر من الصحف المطبوعة أي نوع من الأخبار، بل التحقيقات، والمقالات، والحوارات المثيرة للعقل. إنتهى عصر الخبر. كانت الصحيفة ورقة اخبار لكن القارئ يفتح صحيفته صباحا وهو يعرف كل أخبار الدنيا، وينتظر من صحيفته شيئاً آخر. هذا هو التحدي الحقيقي.
حين شاهدت مسرحية بروودوي الشهيرة Newsies عن محنة بائعي الصحف في القرن الثامن عشر في مواجهة الإحتكار، والتعثر، شعرت بأننا نواجه أزمة قديمة متجددة، نراها الآن، تواجه المهنة ذاتها، والمستقبل للأفكار الجريئة، ولقيادات التغيير الخلاق.
أعرف أن هذه الرسائل لن تصل إلى أولئك الذين لم يكتفوا بالتأخر عن القطار، بل يحاول بَعضُهم مناطحته.
إلى رئيس تحرير هناك قولي هذا: لا يمكنك أن تحارب طائرات الفانتوم بالسيوف الأندلسية العتيقة.