مع أحداث القرن الإفريقي المتسارعة سياسيا وأمنيا واقتصاديا والاهتمام الدولي بهذه المنطقة الاستراتيجية التي كانت محط أنظار العالم قديما وحديثا والتي هي حبلى بأحداث كبيرة فيما تحمله قادم الأيام، تظل جمهورية جيبوتي "بيضة القبان"، حيث نجحت سياسيا في بناء دولة عصرية قادرة على التأقلم مع المتغيرات والمستجدات الإقليمية والدولية الراهنة، منفتحة على العالم، تمارس علاقاتها الخارجية مع الدول الشقيقة والصديقة من منطلق الاحترام المتبادل والتفاهم بين الشعوب، ومن ثمّ إرساء السلام في العالم، وما نيل لقب بلد السلام لعام 2018 من قبل منظمة "سلام بلا حدود العالمية" إلا تتويجا لسياسة حكيمة تنتهجها جيبوتي وجهود مشهود لها تبذلها لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقتها والعالم بأسره عبر موقعها الجغرافي المتميز المطل على مضيق باب المندب.
وعلى المستوى المحلي، فإن هناك إصلاحات ديمقراطية لا تخطئها العين، ومنها: تنظيم انتخابات السلطة المحلية ومجالس المحافظات والمجلس التشريعي، وقيام مؤتمرات الحوار لتكون نهجا يحتذى به في الحفاظ على الوئام بين أبناء الشعب الجيبوتي. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن المرأة تمثل 25% من أعضاء مجلس النواب، كما أن المعارضة ممثلة أيضا في البرلمان.
وفي المجال التعليمي، فقد اعتنت الحكومة كثيرا ببناء المدارس والمعاهد والارتقاء بكفاءة التعليم، حتى وصل إلى جميع القرى والمديريات ليتسنى للجميع أخذ حقهم منه، يواكبه نظام محو أمية بمراكز خاصة به، ناهيك عن التعليم الفني والمهني.
كما تم تطوير القطاع الصحي، وقطاعات الزراعة والسياحة واستغلال الثروة الجوفية والمعادن، وأيضاً الثروة السمكية، والقوات المسلحة عددا وعدة لتكون على أسس علمية حديثة.
وعلى صعيد النهوض بوسائل النقل والمواصلات، فقد تم تطوير خط سكة الحديد بين جيبوتي وإثيوبيا. كما تم تحقيق تقدم هائل في الموانئ من حيث الكم والكيف، فمن ميناء واحد في العاصمة جيبوتي إلى عدة موانئ أحدها للحاويات، والآخر نفطي، وثالث متعدد الأغراض.. يضاف إلى ذلك ميناء محافظة تاجورا، وميناء بحيرة عسل، والميناء النفطي الجديد، والميناء المخصص لتصدير المواشي.
وتضم جيبوتي أيضا المنطقة الصناعية والحرة الأضخم في شرق إفريقيا. كما ارتفع مستوى دخل الفرد نتيجة لما تشهده جيبوتي في الوقت الحالي من حراك تنموي يفتح أبوابه للاستثمارات المحلية والأجنبية.
صحيح أن جيبوتي صغيرة بمواردها الطبيعية وبتعداد سكانها الذي يبلغ نحو مليون نسمة، ولكنها عظيمة بموقعها الاستراتيجي وما تشهده موانئها من تبادل تجاري بين مختلف دول العالم، فهي بوابة شرق إفريقيا والجسر الرابط بين القارة السمراء والجزيرة العربية، إضافة إلى إطلالتها على مضيق باب المندب شديد الأهمية من الناحية الاقتصادية والسياسية.
ومن هنا، أود الإشارة إلى العلاقات المتوازنة التي تربط جيبوتي بأهم القوى العالمية كفرنسا والولايات المتحدة والصين، وذلك انطلاقا من الدور المحوري لجمهورية جيبوتي في الحفاظ على الأمن الدولي في منطقة البحر الأحمر، وكذلك العلاقات المتميزة بين جمهورية جيبوتي وأهم القوى الإقليمية والإسلامية، المملكة العربية السعودية الشقيقة التي كانت – وما زالت- الداعم الأساسي لجمهورية جيبوتي منذ حصولها على الاستقلال في 27 يونيو 1977م، مما كان له عظيم الأثر فيما حققته الجمهورية من تطور ونماء وازدهار يشمل مختلف الجوانب السياسية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والتنموية والاجتماعية.
إن الروابط الجيبوتية- السعودية تضرب جذورها في أعماق التاريخ، ولا تزال تشهد قوة ومتانة يوما بعد آخر، وتتجلى في التعاون المستمر بين الطرفين في مختلف المجالات العسكرية والأمنية والسياسية.
ويمكن القول إن العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين ازدادت قوة ومتانة مع تكرّر زيارات فخامة الرئيس إسماعيل عمر جيله للمملكة وتواصله المباشر مع قيادتها. وكنتيجة لما تمخضت عنه تلك العلاقة المتميزة فإنه توجد حاليا لجنة أعمال مشتركة تمثل إطارا عاما للتعاون الثنائي، تندرج تحته أوجه التعاون السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والتعليمي والثقافي والإعلامي وغيره، وقد عقدت اللجنة أول اجتماعاتها في جيبوتي العاصمة في 2016م، بينما أقامت ثاني لقاءاتها في الرياض في 2017، إضافة إلى انعقاد الدورة الأولى لمجلس الأعمال الجيبوتي السعودي في أبريل الماضي في جيبوتي، وهو منتدى اقتصادي يضم ممثلين من كل من: الغرفة التجارية الجيبوتية، والغرف التجارية السعودية، ويهدف إلى تعزيز التبادل التجاري والاستثماري.
وسياسيا، ظل التناغم في الرؤى بين قيادتي البلدين الشقيقين السمة السائدة في التعاطي مع مختلف الملفات والأزمات في المنطقة، ومن شواهد ذلك أن جيبوتي كانت أول دولة ساندت الشرعية اليمنية برسالة خطية من فخامة الرئيس إسماعيل عمر جيله إلى أخيه فخامة الرئيس عبدربه منصور هادي فور حدوث الانقلاب في صنعاء، كما لبت جيبوتي بعد ذلك نداء اليمن الشقيق بانضمامها إلى التحالف لدعم الشرعية في اليمن، الذي تقوده المملكة العربية السعودية الشقيقة، بالإضافة إلى عضوية جيبوتي في التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب بقياد ة المملكة.
وعلى هامش القمة العربية التي انعقدت في الظهران شرق المملكة، في أبريل الماضي، فقد حضر فخامة الرئيس إسماعيل عمر جيله فعاليات ختام تمرين «درع الخليج المشترك 1» تلبية لدعوة أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث شارك الجنود والضباط الجيبوتيون في هذه التمارين التي تمثل إحدى حلقات التعاون العسكري المهم.
وجميع المؤشرات السابقة تجسّد قوة وعمق العلاقات بين البلدين، وذلك راجع إلى القرب الجغرافي والإنساني بين جيبوتي والمملكة اللتين لا يفصل بينهما سوى أقل من ساعتي طيران، إضافة إلى أن المملكة تضطلع بدور عالمي وعربي مهم وتتميز بثقل سياسي واقتصادي إقليمي ودولي؛ فهي رأس العرب والشقيقة الكبرى، كما أنها أحب البلدان إلى قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لكونها قبلة الإسلام، ومهبط الوحي، وموطن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والخلاصة أن الحالة الإيجابية في جيبوتي داخليا وخارجيا تجعل منها دائما واحة خير وأمن وارفة الظلال لمحيطها الإقليمي ومضرب مثل دولي في التوازن السياسي، في لحظة ما زالت تستقبل اللاجئين رغم إمكانياتها المحدودة وتحوي حضورا عسكريا دوليا مهما، في إطار حراك سياسي عالمي يحمل الكثير من إرهاصات الوفاق والاتفاق والخلاف كذلك بين مصالح دول العالم.
* سفير جمهورية جيبوتي وعميد السلك الدبلوماسي لدى المملكة