كانت لحظات الربيع العربي واحدة من أحلام الشباب التي فاجأتهم نتائجها فيما بعد. كان كثيرون في العالم العربي يعتقدون أنهم أمام مستقبل جديد. لكن ما حدث بعدها كشف عن الجانب المظلم للقمر، كما يقول التعبير الإنجليزي الشهير. إنها خيار قاس وثمنه باهظ.
خلال زيارة إلى مقر حلف الناتو، أواخر عام 2011 التقيت عددا من الثوار الليبيين الذين كانوا منتشين بانتصارهم، فقبل أسابيع معدودة أسقطوا ديكتاتورا حكم ليبيا لأكثر من ثلاثة عقود، وحرمها من الاستفادة من ثروتها النفطية. كانوا يرون فيه مثالا بشعا على السلطة المطلقة، وتحدثوا لي كثيرا عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تعرض لها الليبيون طوال سنوات حكمه.
كانت حواراتي في تلك المدينة الماطرة عبارة عن محاولة استكشاف مستقبل بلد عربي يريد بناء نفسه من جديد. كنا نجلس في فندق لو غراند، ذو السقوف العالية والممرات الرخامية، ونتحدث عن شكل المستقبل الذي يرغب به هؤلاء الثوار، الذين كان أحدهم لا يزال في تلك اللحظة يتشافى من إصابة تعرض لها أثناء قتاله فلول القذافي في الزنتان.
كان منطلق حديثي معهم إن الملكية هي أهم عنصر استقرار في الشرق الأوسط، فلم يعرف العالم العربي منذ بداية تاريخه شكلا غير الملكية. الثوار القادمون لتوهم من ساحات المعارك كانوا يرون العكس. إنهم يريدون نظاما جديدا على الطراز الغربي. كنت متشككا في ذلك. كانت الأحاديث عبارة عن أحلام كبيرة لا يتحملها المناخ السياسي، ولا الاجتماعي لبلد مثل ليبيا. ولربما كان الرجل الواقعي الوحيد الذي تحدث لي لاحقا هو الصحافي الليبي المعروف محمود شمام إذ قال لي: "نريد دولة رفاه لا دولة ديمقراطية".
تذكرت هذه الحوارات الطويلة عن شكل المستقبل بعد الثورة، وأنظمة الحكم في العالم العربي، وأنا أشاهد حالة عدم الاستقرار التي تمر بها ليبيا حتى الآن. لقد كانت الثورة مطلبا شعبيا كبيرا لفئة عانت كثيراً من التهميش، والقمع. فيما بعد ظل بعض الثوار طريقهم، وكان من المحرج جداً ان يتحدث شخص مثل برنارد ليفي، وهو مفكر مؤيد لإسرائيل، عن دوره في دعم العمليات العسكرية، وعن أنه كان يكتب بيانات المجلس الانتقالي الليبي. في كتابه "الحرب دون أن نحبها" يروي بالتفاصيل حكاية تأسيس هذا المجلس، ولقاءاته الكثيرة من رجالات الثورة الجديدة.
إن مأساة ليبيا تكمن في أن معمر لم يترك له بديلاً قادراً على أداء دور في مستقبل ليبيا. ظهر الوضع بالنسبة للمراقبين والباحثين في العلاقات الدولية أن ليبيا لديها موظفي أجهزة سياسية لكن ليس لديها سياسيون قادرون على الحصول على إجماع شعبي.
بعد مضي أكثر من خمس سنوات على ذلك اللقاء في بروكسل، التقيت مستودع أسرار العقيد القذافي ابن عمه احمد قذاف الدم في القاهرة الذي كان مصراً على أن ما حدث مؤامرة غربية على بلاده، ولابد من وساطة عربية لجمع الليبيين من جديد. قال لي: "لابد من دور سعودي". ووجدتها مكتوبة على ورقة كانت موضوعة أمامه بخط يده، وكأنها فكرة لم يرد أن ينسى الحديث عنها.
إن الدور السعودي في ليبيا كان متحفظا. لم تشأ السعودية أن تؤيد المجلس الانتقالي الليبي حتى تتأكد من دعم الليبيين أنفسهم له. غياب الإجماع الليبي كان واحدة من معضلات البلد الجديد. هكذا لم تمنح السعودية مضت إذنا لهبوط طائرة تابعة للمجلس الانتقالي الليبي على أراضيها.
فيما بعد حاول رئيس المجلس الانتقالي مصطفى خليل الحصول على وساطة كويتية لحل الأمر. قال لأمير الكويت:" نريد وساطتكم مع السعودية فلربما كان موقفهم ضدنا بسبب علاقتنا مع قطر. لقد كنا طفلا رضيعا وجاءت قطر وحملتنا ودعمتنا وهذا هو سبب علاقتنا معهم".
على العكس من الدور السعودي في ليبيا، كان الدور القطري لديه أجندته الخاصة. رغبة قطر كانت سيطرة إخوانية على ليبيا. وبعد قطر جاء دور الجماعات الجهادية في ليبيا لتزيد المشهد الليبي تعقيداً.
إن الحدث الليبي هو واحد من الدلائل الكبيرة على طريقة انحراف الثورات عن مسارها، وكيف تسيطر عليها مصالح القوى الكبرى، وكيف تفشل الأحلام في أن تصبح واقعا على الأرض. وحاليا نشهد في ليبيا ثورة على الثورة، وثورة الثوار على الثوار.
سمعت من وزير الخارجية الكويتي السابق الشيخ محمد الصباح كيف فشل الجميع في التعامل مع العراق بعد الغزو الأمريكي؛ فقد أعدوا لمدة ستة أشهر اجتماعات مع المعارضة العراقية وتم التخطيط الدقيق لليوم الأول لسقوط صدام. لكن هذه الخطط صدمت بواقع على الأرض يختلف عن أوراق الخطط، وأفكار المستشارين، وغرق العراق في الفوضى لأكثر من عقد كامل.
في الربيع العربي نجحت الملكيات في البقاء نتيجة مرونتها السياسة. كانت ميزتها الحرص على التنمية، والاستقرار. تذكرت اول نصيحة تلقيتها من صديق كبير، وأنا أدرس منهج العلاقات الدولية في جامعة لندن ساوث بانك، عن أهم ما تبحث عنه الدولة: "إنه الاستقرار".
من خلال أحاديث بروكسل والناتو والثوار، أن الإصلاح من الداخل، دائماً هو الحل الأكثر سلامة، وأقل تكلفة. وعلى الثورات أن تحذر من أحلام الثوّار!