2018-08-07 

حكاية #النمسا : من ذاكرة مدينة أو اثنتين أو ثلاث!

سلطان السعد القحطاني

الطريق إلى فيينا مغسولة بالمطر. اختفت حبيبتنا الشمس، واحترق الشفق في الأفق. اختفى ذلك اللون الخمري الذي كان يسحرنا منذ الف عام. غاب قوس القزح أيضاً، على حين غيمةلم يبق لي سوى المطر الذي يهبط كالحبال على الأخضر الكبير، الذي يسمى الشجر. الترحال في النمسا مثل التوهان في غابة خضراء. رفيقاك المطر الذي تخاله اخضرا، وأحلام الحطابين.

 

 

ماذا عن حطابي العمر؟ لا أتذكر !

 

المدينة كانت حلما من بعيد. حين غادرت سالزبورغ قررت أن أطير إلى  فيينا بسرعة، بعد أن كنت افكر في العودة إلى ميونخ، حيث رعشة القلب الأولى، وإن كانت على مقلب الجغرافيا الآخر، في هيستنغز، الجنوب الإنجليزي، وقد كان حباً ألماني المعنى والمبنى!

 

في الطريق إلى فيينا كان صديقي المطر. خرجت من محطة القطار، وأنا أشعر بالخوف من أن تكون المدينة مجرد فقاعة حلم. مع الوقت بدأت المدينة تكشف عن زينتها أكثر، فأكثر. البيوت الأنيقة، والمترو الملتف كالأفعى، على الطرقات الحلزونية، حيث أصداء قوم مضى، والبشر الذين يتنفسون سعادة، وهدوءاً.

 

هناك في فيينا عرس موسيقى يومي. في الطرقات، والأرصفة، وكل مكان. قال ملك الفالس الراحل، الباقي، الخالد، يوهان شتراوس: " هنالك مدينة إمبراطورية واحدة... وفيينا واحدة". بالفعل.

 

زرت شتراوس وقد كان يحتضن الكمان في الحديقة الخضراء. كان تمثاله ذهبيا. صافحته. حادثته. قال لي كل شيء، ونصف شيء، عن ذلك اللحن الذي لم يأت. حين طلبت منه شجرة العائلة عزف لي. قال لي هؤلاء عائلتي.

 

شتراوس موسيقي  صاخب، راقص، ورغم ذلك نام الكمان بين ذراعيه كعصفور يتيم، لعدة سنوات. إنجيل أصابعه كان نبيذا أزهق آلاف العشاق. كان يواعد اكثر من شمس، وألف حديقة، قبل أن يشرع في فتح بوابة قلبه للموسيقى.

 

قلت له : ماذا على المائدة هذه الليلة؟

 

فكر وقال لي : " هنالك صديقي موزارت في الأوركسترا الكبرى" .

-         "ماذا سيقدم من طبق هذه الليلة؟"

-         "زواج فيغاًرو".

-         "رأيتها منذ سنوات".

-         "وماذا؟"

 

ابتسم شتراوس وقال: "سأدلك على مكان يجتمع فيه سدنة الموسيقى، وكهنتها، وقساوستها، وملوكها".

 

ورمى بالعنوان وذهبت.

 

القاعة أنيقة. واجهات رخامية، وسقوف عالية، أما أطباق المائدة فكانت ما تيسر من موزارت، وهايدن، وبيتهوفن، وفي ضيافة شتراوس. كان شترواس نجم الحفلة الموسيقية التي احتضنتها قاعة "بيتهوفن بلاتز1".

 

أجمل أعمال شتراوس كانت الأغاني الراقصة، التي صبغت نهاية القرن التاسع عشر بلونها، في النمسا، ومن ثم طارت مثل أبخرة الكنائس إلى أوروبا كلها. تجسد موسيقى شترواس رقصات الفالس. كان أجملها، وأسحرها، وأعذبها، وأدهشها، موسيقى الدانوب الأزرق، التي كانت فريدة الدهر، ويتيمته.

 

منذ الخامسة عشر من عمره، وشتراوس، يطرق الآفاق والأبواب، فاتحا الباب للموسيقى، وحين رزق بأبنه، علمه كل شيء، حتى التمرد على الموسيقى المحافظة، وقد فاجأ الابن مجتمع الموسيقيين بمقطوعته "جبال الألب".

 

 

 

***

 

السحر في زيلامسي يعني الليل، والبحيرة، وطبق الفضة الصغير الذي يسمونه القمر.

 

سرت هذا المساء برفقة قلبي، نعبر الشوارع النحيلة مثل سيقان الأطفال. كانت البلدة نائمة. انه الأحد حيث عطلة البشر، وضحكة النوارس. من هنا أرى كل شيء بوضوح . لليل صمت مهيب. لا احد يتحدث سوى القناديل التائهة، وزجاجات الدمع المخبأة في القلب. إبر الماضي، ورماح المستقبل الطائشة، تعبر في خيالي بهدوء عذب. في الليل لا نعرف سوء لغة الضوء، مهما حاولت العتمة أن تفرض قانونها.

 

كبرت الفراشة التي كانت تراود الضوء عن نفسه. هجرت البحيرة، والمدينة، والأنهار التي نسيت قمة الجبل والشتاء، وجدها الأكبر في شجرة العائلة المدعو: الثلج. كم تغيرت الأشياء، وكبرت، وصغرت، وتكونت صورة مختلفة، لها نصيبها من الظلال، والألوان، وحيرة الفرشاة.

 

حرارة متعبة. تقول ديانا النمساوية ذات الأسنان المشعة كالثلج، وتتعثر في فاصلة، أو جملة، أو كلمة، ثم تقول : نغلق الفندق في التاسعة.

 

 وكم كنت مندهشا بأنني سوف أنام قبل أن اودع القمر. قبل أن اغرسه في كأس حلمي. قبل أن أتأكد أن النجوم قد غفت على ساعد الليل.

 

مع ديانا كانت هذه البلدة مختلفة. في التاسعة تأخذ مفاتيح الفندق معها وتمضي. وعلينا أن ننتظرها مع الصباح، لأن هذه النمساوية الحسناء تشرق مع الشمس!

 

وحتى ذلك الحين، وفي انتظار الشروق الجميل، يغرد موزارت، كي يعيد ترتيب الليل !

 

***

 

 

 سالزبورغ هناك، على بعد ساعة ونصف. ومعها موزارت الذي يشرق كالحلم كل ليلة في سمائي.

 

 

من ميونخ بدأت الرحلة. وهكذا مضيت. القطار أنيق وهادئ. الألمانيات يحبون العمل اكثر من الأمل. شعب كاد أن يحكم العالم لولا فارق التوقيت، والطبيعة، لذلك لا وقت لديه للابتسام. لكن وجود الحسان، الشموس، الناهبات، الواهبات، المعطيات، الفاتنات، الساحرات، القاتلات، المحييات، المدهشات، يجعل مذاق الرحلة مختلف. يا له من سكر في الشفاة والألسن، وغدى على أطراف الذاكرة.

 

 

قبل الدخول إلى سالزبورغ تلفتك الطبيعة الساحرة. البيوت التي تلتحف بالحقول، وتتخذ الأشجار معطفا وكأنها تخشى البرد. غداً، أو بعد غد، أو بعد شهر، أو بعد فصل، سيأتي الشتاء، ثم سيمسح عن جبينها هذا الأخضر البهيج، ليصبغ أبيضه المهيب فوق كل شيء.

 

 

ها هي سالزبورغ. طفلة الغابة والجبل والموسيقى. الابنة الشرعية للبهجة. كل شيء بقدر هنا. الأناقة للبشر، والبيوت، والمساكن، والفنادق الصغيرة المنثورة على خاصرة البلدة، وفي أطرافها، وتلك التماثيل ذات العماد.

 

تجولت فيها وكان الحظ رفيقي الدائم. هناك مهرجان للموسيقى، ومسابقة الكلاب الجميلة.

 

قادتني رحلتي إلى تمثال موزارت الذي غلف المدينة باسمه. كل شيء هنا هو موزارت، باستثناء، الماء والهواء، فهما ملك بشري. لاحظت أن القلم كان في يد موزارت اليمنى، رغم انه كان يكتب بيسراه كل نوتاته. ليت صانع التمثال انتحر مالم يكن فاسدا مثلنا أهل الشرق المنهوب.

 

كان موزارت موهوباً لا يبدع، بل يتلقى الإلهام. لم يكن يستهلك جهدا في التأليف، كما يفعل زميله، الحقود، النكود، القنوط، بيتهوفن. في بيته الأصفر، المشهور في سالزبورغ، لفتتني المقطوعة التي ألفها وهو لم يتجاوز الحادية عشر، وكيف أنها مكتوبة بخط طفولي، جميل. كل النوتات كانت تكتب مرة واحدة، ونادرا ما كان موزارت يجري تعديلات عليها.

 

كان موزارت عاشقاً رقيقا، وكان يعشق النساء. قبّل كل امرأة رآها. حتى ملكة إيطاليا طبع على عنقها قبلة دافئة، والخادمة كذلك !

 

المحزن أن هذا الذي أقام أوروبا على قدم واحدة، وقاد أوركسترا وهو في السابعة، مات في الخامسة والثلاثين، ولم يمش في جنازته إلا خمسة أشخاص، بسبب البرد. نهاية رحلة لا تليق بموسيقي انجز أكثر من 600 عمل، وكلها كانت مدهشة، ساحرة.

يقول لي ماثيو، الدليل السياحي، المزعج، أن موزارت مات دون أن ينجز لحنا جنائزيا كان يعكف عليه، وأكمله أحد طلابه، وعزف في جنازته.

 

يا لها من نهاية !!!.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه