يا له من أزرق، أزرق، أزرق، مدهش، هذا الذي يسمونه الأطلسي، موجاً، وإعصاراً، وطوفاناً، وأحلام غد. ويا لها من شمس، هذه المكورة الذهبية، التي تتدلى من السماء، ثم تصبغ بعضا من لونها، كثبان الرمل، ثم تكوي السهول، والسهوب، والتلال، صيفا، بنارها الوضاءة.
يا لها من صحراء قبل كل شيء، وبعد كل شيء: ضفافا، وضفةً، وشاطئا، ورملاً، ولون شروق.
إنها العيون، هذه المدينة الصحراوية، على الطرف المغبر من جنوب المغرب. قصة مغربية مثيرة للعجب، والتعجب، والإعجاب، من البحر إلى الرمل. كل شيء مثير للدهشة هنا. قبل انطلاق جولة تضم مجموعة من مندوبي الصحافة العربية، كنا نتحدث عن شكل هذه الصحراء التي سمعنا عنها، ولم نرها. وحين بدأت رحلة الاكتشاف، تغيرت كافة الصور العالقة في أذهاننا.
بعد حديث مسائي مع وزير الإعلام، والقائد العسكري في المنطقة، جاء الصباح لرحلة اكتشاف أخرى. بدأنا في المسير من مقر نادي الضباط، على غير مبعدة من المطار، إلى المدينة، وقلبها النابض. نعبر بين كثبان الرمل، والصحراء، حتى نصل إلى مدينة العيون، حيث تبدأ الأناقة المدنية. العيون هي عاصمة الصحراء منذ الاستعمار الاسباني. حين رأيت الصحراء اول مرة هتف قلبي. استيقظت الصحراء في داخلي. قلت للقادمين من بلاد التين، والزيتون، وطور سنين، والأنهار، أن هذه الصحراء تذكرني بالرياض، والكثبان، ونجوم السماء الصافية.
هذه المدينة تعيش في حيرة ساحرة، بين الصحراء والبحر، تماما مثل شقيقتها الداخلة. في "العيون" وشقيقاتها من مدن الصحراء، أكثر من ربع مليون جندي مغربي، مقاتل مدرب. الصحراء مسألة حياة أو موت بالنسبة للمغرب.
يشير آخر إحصاء إلى ان عدد سكانها يجاوز 240 ألف.
الملكية المغربية، مصرة أشد الإصرار، على الحرب دون حرب، وسلاحها التنمية، وكأنها مؤمنة بانتصار قضيتها، رغم صراع البوليساريو المزعج، ورماح الجارة الجزائر، ولا يعرف ما الذي تريده موريتانيا، من كل هذا التغاضي عن النشاطات الصحراوية.
كثير من المباني الأنيقة في المدينة، تلفت النظر، ونحن نتوجه إلى ميناء العيون البحري، على ضفة الأطلسي الساحر. هنا قصة نجاح مغربية أخرى، فقد توسع حجم الميناء أكثر، فأكثر، بعد أن تزايدت أهميته. يقول لي قائد الميناء، ومسؤولوه، أن هنالك رغبة لزيادة حجمه، وتوسعته مرة أخرى.
ننظر إلى بقايا الماء على الشاطئ. شاطئ لؤلؤي، فقد كانت الشمس تبث أشعتها بحنان، وعشرات الأسراب، من النوارس البيضاء، تهبط، ثم تطير، ثم تهبط، ثم تطير، بيضاء، بيضاء. هذا الميناء يصدِّر كل شيء، حتى الرمل، والوجهة جزر الكناري، كي تزداد شواطئها جمالاً، وسحراً، وإذا هبت الريح، تعود الرمال إلى المغرب، وكأن الطبيعة تتواطئ معه، ثم يعاد تصديرها مرة أخرى!
في مقر ولاية العيون بدأ الحديث عن السياسة. قال لنا الوالي أن قضية الصحراء هي قضية كل العرب. ثم يعدد الاستثمارات المليونية التي بنتها الدولة.
يقول لي ولزملائي من الصحف العربية: "المشكلة الأساسية هي مع الجزائر، أما البوليساريو فهي لعبة أنشأها القذافي وتعهدتها الجزائر بالعناية... لا نريد من الجزائر إلا حسن الجوار. نحن هنا نعيش ظروفا طبيعية".
بعدها نستمع إلى شرح حول المدينة، وكيف تستوعب العائدين من مخيمات اللاجئين، إذا قدر لهم العودة، والهروب من مخابرات الجزائر، والبوليساريو، الذين يمنعون الصحراويين من مغادرة مخيم تندوف، ذلك المكان المخيف، سيء السمعة.
حين أبدي تعجبي من نهضة الصحراء، على غير ما سمعت، يلتفت إلى مغربي صديق، وثيق، ويقول باسما: "أنتظر حتى ترى الداخلة".
وفعلا، كان الدخول إلى "الداخلة" قصة طموح أخرى.
استيقظت عند التاسعة. من نافذة غرفتي كنت أرى الأطلسي، أمواجا زرقاء ساحرة، وأشمه، نسيما يدخل القلب. من مقر اقامتنا عبرنا إلى مبنى ولاية وادي الدهب الكويرة، حيث لم يكن يبعد سوى خطوات عنا. كانت الشمس حنونة، عذبة، دافئة.
والي الداخلة سفير سابق في الأمم المتحدة، هناك في نيويورك العظمى، على الضفة الأخرى من الأطلسي. سياسي مثقف. دار حديث الليلة السابقة عن كل شيء. قال لنا بوضوح أنه لا مفر من الديمقراطية، ثم تحادثنا عن العالم العربي، ومستقبله، وبعدها حديث عن الإعلام الإلكتروني. نظرت إلى طاولة العشاء، وكان عليها المغرب بكل أشكاله، موالون، ومعارضون، والكل دخل في العملية السياسية، بعد دستور جديد، شكل وجها جديدا للملكية.
ماذا عن الصحراء؟ لم تعد صحراء، بل مبان واسعة أنيقة، وشعب لا يريد أن يكون جزءا من دولة أخرى.
رئيس مجلس الجهة، وهو مجلس منتخب، يتحدث لنا عن كيف تغيرت هذه المدينة، بعد أن كانت مجرد ثكنات عسكرية، ودور خربة، تركها الإسبان. يتحدث الرئيس اليساري عن أحلام المستقبل، ونهضة هذه الصحراء، بلهفة من يشاهد المستقبل بعينيه.
يؤكد لنا أنه من جيل الوحدة المغربية، وأن دولة قريبة، حاولت التدخل، وتخريب هذه الوحدة، رغم أن المغرب أكد على ضرورة الحكم الذاتي، والكل دعم هذا الاقتراح، إلا الجزائر.
هناك من ولد في عهد الوحدة، وهناك من ولد في عهد الاستعمار، عهد فرانكو المخيف، والكل يعرف الفرق بين ما كانت عليه الصحراء، وما هي عليه الآن.
"لا نريد الربيع، ولا نريد دولة أخرى، نريد الاستقرار"... يقول لنا رئيس المجلس البلدي، وهو بدوي من أبناء الصحراء تحدث معنا بالدارجة، وقد اختبر الاستعمار وآثاره.
يقول لنا أن المدينة تشهد نهضة كبيرة، بعد أن كانت مدن صفيح، وفقر، والآن هي مدينة حضرية.
والي الداخلة يتحدث: "هناك نمط تنموي نعمل عليه، ونستهدف زيادة الوظائف، وسياستنا هي التفاوض لحل الأزمات السياسية، خصوصا الصحراء، فنحن نشجع الشرعية الدولية...الأمم المتحدة التي اقترحت الاستفتاء لتقرير مصير الصحراء لم تفلح في تنظيمه، وآخر التسعينات رفعت يديها واعترفت بعجزها".
ويضيف قائلاً: "كان الفضل لبلادي في ادخال الإسلام في افريقيا فلا يمكن أن يأتي طرف ليقتطع المغرب من جذوره. هل تعلمون أن ما يسمى بحركة التوحيد والإصلاح في شمال مالي كان من بين مقاتليها الألف نحو مئتيين من لاجئي مخيم تندوف؟".
وعن قيادة البوليساريو: "من انتخب محمد بن عبد العزيز؟ لم تجر انتخابات في مخيم تندوف على حسب علمي، فعلى أي أساس يتولى القيادة؟.... مصلحة المنظومة العربية هي الاستقرارـ والأمم المتحدة لديها مشروع يحظى بإجماع، بينما الطرف الآخر لا يوجد لديه سي. لا توجد لدينا مشكلة مع المنظومة العربية بل مع جيرننا هداهم الله".