سمَّت العربُ الموقدَ المتنقلَ «المَنْقَل»؛ إذ يمكن تحريكه من غرفة إلى غرفة حيثما يكون الدفء مطلوبًا. وإذ أبحث عن المقالات التي أحب قراءتها كل يوم على الـ«آيباد» أشعر أنه مثل المَنْقَل الفكري، من صحيفة إلى صحيفة، ومن مصر إلى الكويت، ومن لبنان إلى الإمارات أو السعودية. بعض الكتّاب أحرص على متابعتهم كل يوم كما أحرص على الكتابة كل يوم. وبعضهم أقرأ عنوانه ذلك النهار، فإذا كان مكررًا من الأمس، أو أول من أمس، أو السنة الماضية، دعوت له باستسقاء الأفكار. والبعض الآخر لا يلتزم مواعيد الإطلالة، لكنه يلتزم مستوى العطاء والجهد. ومن هؤلاء يخطر في البال دومًا الدكتور جلال أمين. والكتابة لا تُورَث ولا تُورَّث. لكن الدكتور أمين حالة نادرة في هذا الحقل، وفي عمله شبه كبير بكاتب النهضة المصرية أحمد أمين. وكان الزيات والعقاد وطه حسين يجمعون على أن أحمد أمين مجموعة أفكار لا يهمه كيف يصوغها. وكذلك الابن الذي هو مجموعة نظرات بعيدة إلى أحوال مصر، يرسلها بلا تكلُّف وفي مباسطة شبه مطلقة، من دون أن يتوقف لتأييد أو توقير أحد. وغلبت على الدكتور أمين سمعة أستاذ الاقتصاد، فلم يعرفه العرب في صف الكتّاب. غير أنه من أكثر الناس همًا بالشأن السياسي والاجتماعي. وقد علمته الأرقام الدقة وعدم الانجرار خلف المبالغات وإغراء الألفاظ المثيرة أو الفارغة، أو لعله تعلم ذلك أيضا من أبيه. ونادرًا ما تدرجت الكتابة في عائلة واحدة رغم تأثير الأب في تنشئة الابن. وأشهر الأسماء هما الفرنسيان ألكسندر دوماس، أبًا وابنًا. وفي لبنان، كان سعيد وخليل ومنير ونديم تقي الدين أشقاء من عائلة واحدة. كذلك توفيق وأنيس ويوسف صايغ، القادمون من سوريا. غير أن الآباء لم يتركوا للأبناء الكثير في عالم الكتابة. ولا هو أمر ضروري. الأبوة الكتابية هي غالبًا بين غرباء. يتعلم الكاتب من سواه دون أن يدري، وقد تعلم من الغير أيضا دون أن يدروا ويدري. ويسمِّي الكاتب عادة أستاذًا واحدًا تأثر به، غير أنه نتاج تأثيرات كثيرة، يميز بينها غالبًا أسلوب الرجل. وكان أسلوب كبار مصر من أحمد أمين إلى العقاد إلى الزيات إلى المازني إلى طه حسين، هو الذي يميز كلاً منهم. وقد تلاقوا جميعًا في سعة المعرفة والكلمة الأدبية والمناخ الفكري والسياسي المتشابه، لكن فيما انصرف الزيات إلى الإنشاء الإسهابي، وطه حسين إلى الإطالة والتكرار والمفردات، تميز أحمد أمين بالاقتضاب والدقّة. وكان ذلك مما ورث الابن. *نقلا عن الشرق الأوسط