العرب - ايبدو أنّ عقدة سياسيّة نفسيّة حيال “الأب” ممثلا في رئيس الجمهوريّة لا تزال تشكل معضلة الانتقال السياسي في العالم العربي وأزمة إرساء مبادئ التشاركيّة في الحكم والقيادة. عملت الدولة الوطنية عقب الاستقلال على وضع رؤساء على شاكلة “أنصاف الآلهة” يستمدون شرعيّتهم تارة من النضال ضدّ الاحتلال، وتارة ثانية من مشروع الحكم ما بعد الاستقلال، وطورا ثالثا من حروب التحرّر ضدّ الاستعمار الجديد. لم يكن المشهد السياسي العربي طيلة نصف قرن من “اللا زمن” قادرا على استيعاب شخصيات سياسية وفاعلين تشريعيين وقضائيين واجتماعيين واقتصاديين غير “الأب” الذي شخصن السلطة الوليدة وحوّل تاريخ البلاد والعباد إلى حقبتين تبدأ الأولى من فترة ما قبل “الأب” وتنتهي الثانية بحلوله المهلّل على قرابين المنحة الإلهيّة.
هكذا استحال التاريخ توثيقا وتسجيلا لصراع سياسي دموي بين مجموعة من الآباء المتناحرين والمختلفين حول شرعيّة سلطة نصفها مهلكة ونصفها الثاني مذبحة، وهكذا أيضا انقلب الرئيس على الرئيس من مصر بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر، إلى الجزائر بين أحمد بن بلة وهواري بومدين، إلى سوريا بين شكري القوتلي وحافظ الأسد، وليس انتهاء بتونس حيث صفّى الزعيم الحبيب بورقيبة الزعيم الثاني صالح بن يوسف.. دون نسيان العراق والسودان من مذبحة الأوطان ومهلكة الإنسان.
استمرّ الرئيس الأب ممتدا على عرش الجمهوريات إلى ما قبل 2011، وتواصل النظام الرئاسي والملكي الأحادي الشموليّ حاكما للجغرافيا العربية، والمفارقة أنّ إطلالة النظام البرلماني على رقعة العالم العربي كانت مطبوعة بمسحة الدماء والدمار على شاكلة عراق ما بعد الاحتلال، أو مبصومة بالمحاصصة الطائفيّة المقيتة على غرار لبنان، وفي الحالتين غاب الأب الرئيس وحضر آباء الطائفية والطوائف والمذهبيّة. جزء من الحراك الشعبي العربي انصبّ على كسر الصورة وبتر المنظومة، صحيح أنّ رؤساء ذهبوا وآخرين ارتحلوا ولكن لا تزال عقدة الأب متحكمة في مفاصل رئيسية من براديغم السلطة ومقاربات الانتقال السياسي.
في سوريا تقف معادلة الرئيس بشار الأسد كحجرة كأداء للتفاهمات المحلية والإقليمية والدولية، والحقيقة أنّ النظام متمسك بالرئيس لانعدام البديل في الحكم، والمعارضة متشبثة بإسقاط الأسد من أجل استبداله برئيس آخر أو بفاعلين آخرين، ما يؤكد أنّ المعضلة في المنصب، وأنّ أقلية من السوريين تفكّر في إرساء الديمقراطية.
في اليمن أيضا، تقف البلاد شاهدة على حرب ضروس بين رئيسين متناحرين واحد ارتهن للحوثيين من أجل ولاية جديدة، وثان عاجز عن بسط نفوذه السياسي حتى على نائبه المباشر، وبين الرجلين صراع حول شرعيّة رئاسيّة متهالكة توهّم الكثيرون أنّها انقضت بمجرّد تنظيم احتفال التنكّر السياسيّ تحت عنوان “تسليم السلطة”. وفي لبنان، لا يزال وطن الأرز يعيش فراغا رئاسيّا يصعب جسر هوّته ضمن حسابات الطوائف والكنتونات المذهبيّة أيضا.
المأساة الملهاة في لبنان، الذي يعرف اليوم فراغا رئاسيا وانسدادا برلمانيا وضعفا حكوميا وانحسارا بلديا محليّا، أنّ رؤساء الطوائف وحدهم يستوعبون المواطن ويلتهمون الوطن إلى حدّ تصبح مأسسة الفراغ الرئاسيّ أمرا معتادا وروتينيا لا لاستبطان الشعب اللبناني للقيادة الذاتيّة وللحوكمة الرشيدة، وإنما لوجود “غيتوات طائفيّة برؤساء فعليين”.
أمّا تونسيا فيبدو أنّ “الأب الرئيس” استفاق بعد نصف سبات ذكيّ لا يعرف كنهه إلا من تعوّد على مجاراة أنساق الرياح الشعبية والسياسية. اليوم، يطالب الرئيس الباجي قائد السبسي مدعوما بكتلة حزب النداء ومجموعة “الحرّة” ومؤيدا من قيادات أولى في حركة النهضة بإعادة الاعتبار لمؤسسة الرئاسة الجمهورية عبر منحها المزيد من الصلاحيات التنفيذية من خلال تعديل دستوريّ تعود بمقتضاها تونس إمّا إلى النظام الرئاسي الخالص وإما إلى النظام شبه الرئاسي في أدنى الحالات.
بعيدا عن القراءات الدستوريّة، قريبا من القراءات السياسيّة، من الواضح أنّ الأب الذي استكان لمدّة خمس سنوات من عمر الانتفاضة يتلمّس طريق العودة إلى الميدان والوجدان، ذلك أنّ الأبناء والأحفاد عجزوا عن الخروج من جلباب الأب، بل إنهم في الكثير من الأحيان استحضروا الأب بورقيبة شخصا وشخوصا وأخرجوا “رجالاته” من غياهب النسيان للحكم الانتقالي الأوّل والثاني.