لا شك أن التصريحات التي أدلى بها مؤخراً صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية الشقيقة لممثلي وكالة "بلومبرغ" الأمريكية المعروفة، تعد من أهم التصريحات التي أدلى بها سموه منذ توليه منصبه، سواء من حيث التوقيت او من حيث القضايا والموضوعات التي شملتها، وهما عنصران لا ينفكان، لأن التوقيت جاء موفقاً للغاية ويعتبر بمنزلة ضربة قوية للمشككين والمغرضين والاعلام المعادي للمملكة الشقيقة.
ولأن هذه التصريحات مهمة ومتشعبة، سأركز على نقاط مهمة بحسب أولويتها ولاسيما فيما يرتبط بوجهات النظر السعودية تجاه قضايا الداخل والخارج في العلاقات السعودية مع العالم، لأن الداخل لا يقل أهمية عن الخارج في ضوء الثقل الاستراتيجي والمكانة الحيوية للمملكة في معادلات الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.
ربما جاء موضوع طرح أسهم شركة "أرامو" النفطية العملاقة في صدارة اهتمام الغربيين تحديداً بالنظر إلى أهمية العملاق النفطي السعودي في الاقتصاد العالمي وفي أسواق النفط تحديداً، فقد كثرت التكهنات منذ إرجاء الطرح، وجاءت تصريحات ولي العهد السعودي لتؤكد أن المملكة تنوي إتمام طرح الأسهم في السوق المالية بحلول عام 2021، حيث قال "إن هذا الامر سيحصل أعتقد في نهاية 2020 او مطلع 2021"، وهذا الأمر ينطوي على الكثير من الأهمية بالنسبة للأسواق المالية العالمية ومراقبي الشأن السعودي، حيث يمثل تأكيداً على استمرارية النهج الاقتصادي والرؤية الاستراتيجية للمملكة بعيداً عن الشكوك والتأويلات والأكاذيب التي يروجها البعض.
وجاءت النقطة الثانية في هذه التصريحات ـ من حيث الأهمية من وجهة نظري ـ متمثلة في تناول موضوع تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن العلاقات الامريكية ـ السعودية، وهي النقطة التي كانت موضع اهتمام بالغ من الاعلام الدولي في ضوء تركيز الرئيس ترامب في خطاباته أمام التجمعات الانتخابية الأمريكية التي حضرها مؤخراً على العلاقات مع الرياض، وهي تصريحات وظفتها بعض وسائل الاعلام المعادية للمملكة في التشكيك في متانة وقوة علاقات الشراكة بين الحليفين التاريخيين، متناسية أن الرئيس ترامب يمتلك نهجاً متفرداً في إدارة العلاقات مع الحلفاء، وأن تصريحاته لا تعني مطلقاً انتهاء التحالفات وطي صفحة الماضي.
تحدث الرئيس ترامب في ثلاث خطب متوالية عن علاقة الشراكة الأمنية الأمريكية ـ السعودية، وقد بالغ كثيراً في توصيف شكل هذه العلاقة، وربما تعمد تضخيم الدور الأمريكي في توفير مظلة الأمن للحلفاء في دول مجلس التعاون، ولكن لأننا نتحدث من وجهة نظر بحثية وعلمية، فلا يجب أن ننسى مطلقاً أن ترامب قد تحدث بالطريقة ذاتها عن حلفاء الأطلسي، وأنه وجه مطالب مشابهة للحلفاء الأوروبيين، من دون أن يعني ذلك التقليل من القدرات العسكرية لهؤلاء الحلفاء!
وحتى نفهم نهج ترامب، علينا أن نعود بالذاكرة قليلاً إلى الوراء، وتحديداً خلال شهر يوليو الماضي، حيث هاجم الرئيس الأمريكي حلفاء بلاده في حلف الأطلسي قبيل قمة بروكسل التي عقدها قادة الحلف وقتذاك، حيث "غرد" ترامب نصاً على موقع "تويتر": "الولايات المتحدة تنفق على حلف شمال الأطلسي بزيادة كبيرة، مقارنة بما تنفقه أي دولة (عضو) أخرى. هذا ليس عدلا وغير مقبول. ورغم أن تلك الدول تزيد إسهاماتها منذ أن أتيت لمنصبي، فإن عليها فعل المزيد".، وقال في لقاء شعبي سبق هذه التغريدة: "سأقول لحلف الأطلسي: عليكم أن تبدأوا دفع فواتيركم. فالولايات المتحدة لن تتكفل بكل شيء. إنهم يفتكون بنا في التجارة"..
هذا هو نهج الرجل في التعامل مع حلفائه، والأمر لا علاقة به بالإهانات الشخصية كما يحلو لبعض المغرضين من أعداء المملكة استغلال هذه التصريحات في الإساءة إلى قيادتها ومحاولة النيل من دورها والتشكيك في مكانتها، فالرئيس الأمريكي أقر للجميع بأنه يحتفظ للمملكة والعاهل السعودي بالحب والود، وبالتالي فلا مجال هنا للحديث عن عداوات ولا أهداف شخصية بل مصالح دول وهي أهداف مشروعة سياسياً وفيها أخذ ورد وشد وجذب، وهذا مافعله ولي العهد السعودي حين قام بتفنيد هذه التصريحات بمنتهى العقلانية والهدوء من دون أن يقلل ذلك من علاقات الشراكة والتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.
وعلى من لا يزال يشكك في هذا الطرح أن يسأل نفسه: هل كان الرئيس ترامب يريد الانتقاص من دور ألمانيا وفرنسا حين شن حملة الانتقادات والتهديدات بل ذهب إلى حد التلويح بالانسحاب من حلف الأطلسي إذا لم يستجب الحلفاء للمطلب الخاص بزيادة مشاركتهم في ميزانية الأطلسي التي تتحمل الولايات المتحدة العبء الرئيسي فيها؟
هذه الانتقادات وغيرها هي جزء من خطة ترامبية كاملة تستهدف تصحيح ما يعتبره البيت الأبيض خللاً في الانفاق الأمريكي المترتب على علاقات التحالف والشراكات الأمنية مع الحلفاء، وهي مسألة لا تقتصر على الجانب الأمني، بل تمتد لتشمل الشراكات الاقتصادية والتجارية كما هو الحال فيما بات يعرف بالحرب التجارية المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين.
هو اختصار توجه أمريكي خاص بالرئيس ترامب لتنفيذ ما يعتقد أنه لمصلحة بلاده، وقل ماشئت في ذلك من وجهة النظر التحليلية، هو توجه انعزالي.... توجه انسحابي مع مسؤولية الولايات المتحدة عن قيادة النظام العالمي....توجه يعيد ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية ، قل ماشئت سياسياً في ذلك، ولكنه في مجمل الأحوال ليس موجهاً إلى دولة بعينها على وجه التحديد، ولاسيما المملكة العربية السعودية، التي تحتل مكانة بالغة الأهمية في الرؤية الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، ومن يعتقد بغير ذلك فهو لا يعرف جيداً حقائق العلاقات الدولية واتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية في العالم.