"إن الحزب ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة"..
هذا بيان مؤرخ ب 16 فبراير 1985، لكن أكثر العقول سابحة في الخيال لن تتوقع أن هذه الكلمات ستتناثر من جماعة عربية اسلامية تستوطن في دولة غارسة جذورها في قلب الأمة العربية، إنه حزب الله في لبنان الذي أصدر هذا البلاء فور تأسيسه الرسمي ليعلن حربه الطاحنة من أجل تحويل لبنان إلى ولاية فارسية تابعة لإيران، فالخميني في أعين العمائم اللبنانية صار روح الله السابحة في ملكوت الأرض، وآية من آياته على العباد، ليكون مفجرا لأكبر ثورة للمسلمين بل وباعثا لنهضتهم المجيدة!
ومن هنا بدأت مسيرة التخلف في بلد عرف بتنوعه الطائفي والفكري والديني....فماذا وقع بعد؟
الولاء لإيران أهم من الانتماء الوطني للحزب
تحدثنا سابقا عن الارهاصات الاولى لولادة الحزب، وذلك عبر تفاعلات مشتركة بين مخرجات النزعة الطائفية للدولة اللبنانية التي زادت جروحها تعفنا مع الغزو الاسرائيلي والزخم الذي أوقعته الثورة الايرانية بين شباب الطائفة الشيعية...الآن يمكن أن نقول أن هذه العوامل كلها أفرزت جينات بنسب معينة في المولود الجديد، لكن ملامح الوراثة الطاغية على صورة الحزب كانت مخضبة بالتبعية والولاء لحاكمية الولي الفقيه دون ادنى اعتبار للمبادئ الأولى التي شكلت النواة الأولى قبل وجود الملالي على رأس الحكم في ايران، هذه الحالة التي ينكرها كوادر الحزب بدعوى أن التحالف مع ايران كان بعد التأسيس، هي حالة مثبتة في السجل التاريخي للحركة الشيعية في لبنان مع بداية الثمانينات من القرن الماضي، حيث برز الدور الايراني مفضوحا في دفع الشباب الشيعي تحت ضوء الانبهار إلى التكتل بشكل طائفي لتشكيل كيان تابع فكريا وايديولوجيا وسياسيا الى طهران، وهي تبعية على أساس مذهبي تكتسح أي ولاء للدولة الوطنية الغائبة في لبنان.
نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم أقر بشكل واضح أن المؤسس الحقيقي للحزب هو الخميني ذاته عندما قال: "ذهبت مجموعة مؤلفة من تسعة أشخاص إلى إيران للقاء الإمام الخميني، وعرضت عليه وجهة نظرها في تأسيس وتكوين الحزب اللبناني، فأيد هذا الأمر وبارك هذه الخطوات" وفي روايات أخرى أن عدد المتوجهين للخميني كان عددهم سبعة من كبار الشخصيات الممثلة للجماعات الاسلامية الشيعية، التي استقطبت مجمل الشباب الشيعي التواق إلى التكتل تحت راية الولي الفقيه باعتباره الرمز الشيعي الذي يشكل المرجعية الأكبر للطائفة الشيعية في المنطقة.
فالمباركة الايرانية كانت ضرورية لخلق مرجعية واضحة للحزب، وهي مرجعية لا حياد عنها ستتبلور وتترسخ بالدعم اللامحدود الذي ستسنده ايران للحزب ابان التأسيس وفيما بعد...وسنلاحظ أن التأسيس الفعلي للحزب تم الحاقه بالبيان الذي أوردناه في بداية هذه الحلقة، وهو بيان يعبر عن انبطاح لا مشروط للخميني الساكن في طهران باعتباره المبعوث من الله لبعث النهضة في الأمة الاسلامية!
ربما هذا البيان كانت له ظروفه الخاصة أمام التطاحن بين الطوائف اللبنانية داخل الدولة الرخوة والمترهلة، مما جعل الحزب متعطشا إلى الاستناد على حائط قوي بدل التعويل على التوحد الوطني المفقود، لكن بالمقابل لا يمكن الحسم بأن الاندفاع نحو ايران كان مبنيا فقط على هذا الأساس، بل هناك تعصب مذهبي جارف جعل قيادات الحزب تحول بوصلته المرجعية من النجف إلى طهران بفعل الزخم الذي خلقه الخميني بعد الاستيلاء على دولة ممتدة لها كل مقومات الريادة في العالم الشيعي، وهذا ما قد نتطرق إليه لاحقا فيما يخص تأثير الثورة الايرانية على الطائفة الشيعية المنتشرة في لبنان والعراق ...هذا الزخم استغلته الزمرة الحاكمة في طهران لتمرير الأحلام الفارسية داخل المناطق العربية وذلك على حساب أي وحدة عربية أو وطنية، لذلك فالتكتلات الشيعية في المنطقة كانت تلجأ لولاية الفقيه لتصريف أعمالها طبقا للمرجعية الجديدة، وهذا ما حدث ابان التأسيس في حسم بعض الخلافات بين حركة أمل وحزب الله.
حسنا، علينا الاقرار أن حزب الله هو الابن المدلل لإيران في المنطقة، وهو تمثيل اتخذ طابعا اكثر عمقا وأكثر خدمة للأطماع الفارسية في الجغرافيا العربية، فكوادر الحزب لم يترددوا عقب التأسيس في الاعتراف جهارا أن الأمر يتعدى التبعية الفكرية والأيديولوجية ليصل إلى فرض تبعية سياسية بل ووجودية، فلا يمكن أن نهمل صراخ حسن نصر الله قبل حصوله على الأمانة العامة، عندما تحمس أمام الجماهير هاتفا: " إن لبنان ستكون تابعة للدولة الاسلامية التي يحكمها صاحب الزمان ووليه بالحق الولي الفقيه الخميني" وهو اعلان فصيح يقبر الدولة اللبنانية في جب الخميني الذي جعل له وكيلا شرعيا في لبنان وهو الأمين العام لحزب الله، وهذا ما استمر ليصبح حسن نصر الله بشكل رسمي ومعلن الوكيل الشرعي للولي الفقيه خامنئي المرشد الحالي للنظام الايراني.
فالتعابير التي تصبغ لغة قادة الحزب كلها تذهب إلى ان أفرد الحزب هم رعايا إيرانيون يقيمون في لبنان التي يجب تحويلها الى ولاية فارسية تدين بالفكر الخميني وتتعبد بمرجعية الولي الفقيه، فلم يكن غريبا تناثر تصريحات الولاء والتبعية، كما صدر من قيادات كبيرة في الحزب.
هنا يمكن أن أن نتساءل عن الطبقات المتأخرة في حزب الله، ونقصد الفئات المتدنية من الأتباع والأنصار...فاذا كان حال النخبة بهذه الفظاعة في التعبد بالراعي الرسمي في ايران، فكيف سيكون حال الأتباع الذين يروا في المرشد الفارسي روح الله في أرضه التي بعثت وكيلا لها في البلاد وهو السيد حسن نصر الله، الذي لا يتردد هو شخصيا في تقبيل يد الخميني بشكل يتجاوز اللهفة!
المال الايراني لشراء ذمة الحزب
الولاء المطلق لإيران كان متسترا في البداية لكن بعد التأسيس أصبح معلنا حيث وصلت تصريحات قادة الحزب حدا متقدما من الفجاجة في هذا الموضوع، ضاربين عرض الحائط كل الاعتبارات للانتماء الوطني للدولة الحاضنة...ومع ذلك فهذا الدعم لم يكن وليد لحظات الاعتراف، فقد استمر لأعوام طويلة عملة يتم تمريرها تحت الطاولة، رغم ما دأبت عليه القيادات في بادئ الأمر من التنكر لأي دعم مادي من الجمهورية، وتحصر ولاءها في الجانب المرجعي في سبيل دولة اسلامية تابعة للولي الفقيه.
سنة 2012 سيخرج حسن نصر الله في خطاب بمناسبة ذكرى المولد النبوي ليبعث رسائلا إلى العالم بعد اتهام حزب الله من واشنطن بالانخراط في أعمال مشبوهة لغسيل الأموال وبيع المخدرات لجلب التمويل الكافي للحزب.
هذا الاتهام الذي أخرج الفأر من جحره المتخفي منذ العقود الماضية...حيث أعلن حسن نصر الله في هذا الخطاب أنه لأول مرة سيعترف بشكل صريح أن ايران تشرف على التمويل الفعلي لحزب الله: " نحن نتلقى الدعم المعنوي والسياسي والمادي بكل أشكاله الممكنة والمتاحة من الجمهورية الاسلامية في إيران منذ عام 1982 " وأضاف بشكل واضح: "الدعم المالي الايراني يغني الحزب عن أموال العالم" وهو تصريح نوى فيه ابعاد التهم الخاصة بالإتجار في المخدرات وغسيل الأموال من طرف الشركات التابعة للحزب...وذلك قبل أن يستطرد في ذات الخطاب لدرء اي شبهة في كون الحزب ليس سوى أداة في يد الجمهورية الايرانية لتنفيذ أجندة معينة في المنطقة، حيث أكد في نفس خطابه أن ايران تفعل ذلك انطلاقا من مبادئها الخاصة دون أن تطلب من حزب الله أي مقابل جراء دفع هذه الأموال!
طبعا حسن نصر الله في هذه النقطة بالذات كان يتكلم بسطحية مطلقة، فمن الغباء حسب كل المحللين تصديق أن ايران بأوجاعها وظروفها الاقتصادية المتدهورة ستدفع أموالا طائلة دون أن ترجو مصالحا وأهدافا معينة مقابل هذه الأموال، وهذا موضوع سيأتي الخوض فيه السطور القادمة...لكن دعنا الآن نتعرف طبيعة هذا الدعم وما هي تقديراته كي نستشعر مدى المصداقية في كلام نصر الله من عدمها.
مؤسسة أمريكية معروفة بدقتها في التقارير والدراسات، وهي مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات التي أفرزت تقريرا مفصلا عن التمويل المرسل من القيادة الايرانية إلى حزب الله، وهو تمويل شهد تغييرات نسبية في فترات متلاحقة بفعل الظروف الاقتصادية العالمية والمحلية...فقبل سنة 2006 كان حزب الله يحصل على دعم مادي يقدر بين 100 و200 مليون دولار سنويا من ايران، ليرتفع بعد ذلك بعد حرب تموز الخادعة ليقارب 400 مليون دولار، ثم انخفض نسبيا ابتداء من 2009 جراء التراجع في أسعار النفط العالمية مما أثر على الاقتصاد الايراني. لكنه وحسب نفس المؤسسة ففي السنوات الأخيرة ارتفع بشكل ملفت ليناهز 800 مليون دولار سنويا...
وهذا ما أكدته "بلومبرغ" التي قدرت الدعم المالي الايراني لحزب الله في الثلاث سنوات الأخيرة في نفس الرقم، مشيرة إلى أن هناك مجموعة من المشاكل اعترت هذه الوتيرة المتصاعدة من الأموال بفعل العقوبات الأمريكية على طهران، وهذا ما جعل حزب الله في الأشهر الأخيرة يكثف من جهوده في تجفيف منابع الأموال داخليا أو خارجيا لضمان الأريحية في تمويل أشطته العسكرية في المنطقة.
حسنا، ايران منذ 1982 وهي تستنزف ميزانيتها في سبيل دعم كيان تم زرعه في منطقة حساسة داخل الأمة العربية، فهل توقف هذا الدعم على الجانب المادي فقط؟
أوجه مختلفة للدعم الايراني لحزب الله
يقول الولي الفقيه خامنئي: "دعم حزب الله واجب مذهبي وثوري" وهو لحد ما كان واضحا في التعبير عن المقاصد المرجوة من المساندة المطلقة لحسن نصر الله وأتباعه، فبالإضافة للجانب المذهبي هناك الاتجاه الواضح لزرع مبادئ الثورة الايرانية في المنطقة، لذلك توسعت إيران في امداد الحزب بمختلف أوجه الدعم الممكنة بما فيها التدخل المباشر في الشأن السياسي اللبناني بغرض تمكين الحزب من التحكم في مفاصل الدولة اللبنانية.
ايران دولة معسكرة الطبع، ونادرا ما تغيب اللمحة العسكرية عن أي فعالية مدنية حتى لو كانت أنشطة تربوية في المدارس! حالة العسكرة هذه تم نقلها بشكل سريع إلى حزب الله منذ التأسيس وذلك تحت ذريعة محاربة الاحتلال الاسرائيلي الذي انتهى سنة 2000، لكن رغم ذلك استمر الدعم العسكري لميلشيات الحزب حتى بعد هزيمة 2006 التي تم تسويقها على أساس أنها انتصار...وهذا الدعم حول الجناح العسكري لحزب الله أكثر قوة من الجيش اللبناني المترهل، وبالتالي تم توطئة الطريق لسيطرة الحزب على لبنان، وهذا ما سمح للذراع الايرانية بالتمدد للعبث بمقدرات الدولة اللبنانية.
الدعم العسكري وتسليح ميلشيات الحزب موضوع لا يسمح المكان لتفصيله بشكل مناسب، فالغرض هنا هو سرد أوجه الدعم بشكل معمم وسريع دون الغور في التفاصيل...لذلك نقول: إنه اضافة لهذا الدعم أو التوغل العسكري، فإن ايران ساعدت الحزب كثيرا في الجانب المؤسسي على مختلف الأصعدة والجوانب حتى أضحت بعض المؤسسات التابعة لحسن نصر الله أقوى من مثيلاتها الرسمية التي تتبناها الدولة اللبنانية، والملفت للانتباه أن جل المؤسسات تحمل أسماء مطابقة لنظيراتها في الدولة الايرانية: "الشهيد"، "القرض الحسن"، " مدارس شاهد"، ""الجرحى"، "مدارس الامام الخميني"....هذه نماذج للمؤسسات الاجتماعية أو التربوية التي تضاف إليها مجموعة من المنشآت الصحية والبنكية والتجارية، كلها تابعة للحزب تحت اشراف ايراني مباشر من حيث التمويل أو التسيير، بل حتى المناهج التربوية المعتمدة في مدارس الحزب هي مستمدة من النظام التربوي الايراني بهدف تخدير وتنميط عقول دراويش الشيعة في لبنان، بغية لخضوع المطلق الى ولاية الفقيه في طهران.
أما على الجانب الاعلامي والثقافي، فايران على ادراك تام لما لهذا الجانب من فاعلية في نشر الفكر الخميني في العالم وفي المنطقة العربية على الخصوص، لذلك دأبت على تأسيس أذرع إعلامية خاصة للتسويق لمشروعها الطائفي في المنطقة، كما تبنت تأسيس منابر اعلامية واقامة فعاليات ثقافية ودعوية في الأرض اللبنانية لفرض توطيد المد الايراني في حياة الشعب اللبناني، وطبعا حزب الله كان هو الوعاء الحاضن لكل هذه الأبواق والمنابر، فقناة المنار التي تسبح بحمد خامنئي صباحا ومساء هي بتكليف ايراني وتدخل سوري لفرضها على الحكومة اللبنانية في التسعينيات من القرن الماضي، وهو نفس الأمر بالنسبة للمنابر الاذاعية أو المنشورات المكتوبة والالكترونية.
خلاصة
حزب الله هو ايران، وايران هي حزب الله، هكذا يريدها أتباع حسن نصر الله...بينما إيران تريد الحزب كيانا فاقدا للتفكير والأهلية، خاضع بشكل مطلق دون تفكير أو تدبر لتطبيق رؤية إيران في السيطرة على المنطقة، ومنها تحويل لبنان إلى ولاية فارسية تابعة لطهران، لذلك لا تبخل في بخس حقوق شعبها بغرض تدليل الحزب بكل الدعم المتاح وغير المتاح في سبيل تنفيد هذه الرؤية.