لم أذكر يوماً أني قرأت رواية أو استمعت إلى حكاية بأحداث وشخصيات، دون أن يذكر فيها المكان وتوصف تفاصيله بطريقة تسمح لنا بتخيله، وكأنه حقيقة متجسدة أمامنا! لكن هل تساءلت عزيزي القارىء.. لماذا؟ سأخبرك.
لأن المكان جزء مهم من تكويننا الإنساني. وأنت بالتأكيد تذكر الأمكنة التي احتضنت الكثير من تجاربك الحياتية.. سواء كانت سعيدة أو حزينة. فهناك علاقة روحية وفلسفية تربط الإنسان بالمكان. هذه العلاقة تتشكل منذ الطفولة، ومع مرور الوقت تكوّن أرشيفاً عاطفياً للأمكنة في ذاكرتك. وأبسط مثال على ذلك، أنه من السهل جداً عليك أن تسترجع شعوراً ما، مررت به قبل أشهر أو حتى أعوام طويلة.. بمجرد أن تزور المكان الذي ارتبط بذلك الشعور! إذاً تخيل معي الآن.. كيف سيكون حجم الإرتباط والتعلق والحب لمكان ولدت فيه وخطوت على أرضه خطواتك الأولى بعد أن زحفت وحبوت! كيف ستشعر تجاه مكان كنت تردد فيه وله كل يوم وأنت تقف في طابور المدرسة الصباحي وعيناك تقاومان النعاس "سارعي للمجد والعلياء" قبل أن تتعلم القراءة والكتابة؟ مالذي سيحمله وجدانك لأرض ساهمت في صناعتك حين منحتك مجاناً العلم والأمن والأمان لتنمو فكراً وجسداً، والفرص والتحديات والخيبات لتقتنص وتقاوم وتنجح وتغدو فرداً فاعلاً؟ وفوق ذلك كله ميزها الله دينياً بأنها أطهر بقاعه؟
إن سمحت لي بالإجابة فسأقول: لن يحملك وجدانك سوى الحب والوطنية. ولن أبالغ إن قلت بتطرف بأني أحمل في جوفي من فرط حبي لهذه الأرض قلباً أخضر!
يكفي أنها منحتني أول ذرة أوكسجين حين ولدت! وكانت حاضرة وأنا أصنع ذكرياتي، فشاركتني انكساراتي وصفقت لنجاحاتي، بل وتباهت بي في كل محفل. إن الإنتماء والإمتنان الذي أشعر به تجاه هذه الأرض أكبر وأعظم من أي حنجرة غيورة تنعق بكلمة جارحة خلف ظهري حين أنجز أو أنجح! لذلك سأروى قلبي الأخضر ليزداد اخضراراً، وسأبني ذاتي وأستمر في نجاحي، وسأساهم بهمة في تنمية هذا الوطن مهما كلفني ذلك من جهد أو ألم، وسأبقى ابنة وفيّة لمملكة الإنسانية.