دعنا نُرجع عقارب الساعة إلى نهاية حرب العراق الأولى. حيث وُضعت الخرائط لبلدان المنطقة مقسّمةً إلى دول أصغر، على أسس عرقية وطائفية ودينية وبجانبها توجد كردستان الكبرى.
مما لا يثير الدهشة - وعلى الرغم من تقسيم أجزاء من دولهم كانت كل من تركيا وإيران سعيدتين بهذا. كانوا يعتقدون أنهم يستطيعون السيطرة على النتائج، مع تحول إيران إلى زعيم للشِّيعة العرب وتركيا زعيمةً للسُّنة. ولكنهما في الآخِر، كلاهما أنظمة إسلامية استبدادية، وإن كانت سنية وشيعية على التوالي فهم اختلفوا فقط حول الترتيبات المحددة المطلوبة لإتاحة الفرصة لإيران للوصول إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان وتركيا جنوبًا إلى الخليج لإعادة تشكيل نوعا ما حلمهم في الإمبراطورية العثمانية الجديدة مع إمكانية الوصول إلى النفط والغاز في شرق سوريا وغرب العراق. لكن تركيا أدركت للتوّ أنها لا تعتبر "شريكًا" من قبل حلفائها الغربيين في الشرق الأوسط الجديد إنما مجرد أداة للمساعدة في تحقيق ذلك.
لم يفهموا حتى وقت قريب أن كردستان الجديدة لن تكون في العراق فقط (وكما أصبح واضحًا مؤخرًا في سوريا) ولكنها تشمل أيضًا الجزء الكردي من تركيا وهذا يعني فقدان الأراضي والحصول على جار معادي. لهذا السبب بدأوا في رؤية الأكراد تهديدًا وجوديًا يجب عليهم محاربته خارج حدودهم. لا عجب أن الرئيس أردوغان قال مؤخرًا شيئًا لم يكن من الممكن تصوره قبل خمس سنوات و إنه قد يتحدث إلى الرئيس الأسد لأنهما كلاهما يقاتلان العدو نفسه. ولهذا خوض معركة حتى الموت ضد الأكراد الذين يلاحقهم الرئيس أردوغان خارج حدوده، وقد قام بتحذير رئيس الوزراء العراقي من أن تركيا تشعر أن لها الحق في خوض هذه المعركة أينما كانت.
في بداية الصراع السوري كانت تركيا وروسيا على الجانبين المتضادين. ولكن على الرغم من إسقاط طائرة روسيةالتي تلتها عقوبات صارمة من روسيا ثم قصف روسي للإسلاميين المدعومين من تركيا على الحدود التركية أظهر الرئيسان أردوغان وبوتين "سياسة حقيقية" في العمل. قام الروس بالعمل على استقطاب الأتراك الذين يعد جيشهم ثاني أكبر جيش في الناتو و ربحهم كحليف وتم منح تركيا الإذن بالدخول إلى الأراضي السورية لمحاربة الأكراد وإبقاء الولايات المتحدة تحت المراقبة. كما وقعوا على اتفاقية لبناء خط أنابيب رئيسي للغاز تحت البحر الأسود كما ساعد بوتين الرئيس التركي أردوغان على تجنب الانقلاب العام الماضي الذي يعتقد الرئيس التركي أن العقل المدبر له كان هو الغرب والولايات المتحدة على وجه التحديد! في الحقيقة، يوم الجمعة الماضي أصدر المدعي العام في تركيا مذكرة توقيف بحق ضابط الاستخبارات الأمريكية السابق جراهام فولر بسبب "محاولة الإطاحة" بحكومة تركيا. منذ وقت ليس ببعيد، كانت تركيا تصطف للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي و قال الرئيس أردوغان مؤخرًا إنه إذا لم يتم تقديم العضوية الكاملة سيكون ذلك بمثابة "نهاية اللعبة".
تركيا تريد أن تحصل على الكعكة وتأكلها. وقد اعتبرها الاتحاد الأوروبي خدعة و في الأسبوع الماضي، سحبت حوالي 200 مليون دولار من التمويل المقدّم للمساعدة في إعداد البلاد لتصبح عضوًا كامل العضوية. وهذا لن يخيّب أمل مراقبي وضع سوريا في أوروبا الذين رأوا تركيا تدعم المتطرفين في سوريا منذ البداية بما في ذلك داعش او 'تنظيم الدولة الإسلامية'التي اشترت منها النفط! هذا لم يعد سراً. لقد انتقد صلاح الدين ديميرتاس، زعيم المعارضة التركية، من حزب الشعب الديمقراطي تعاملات تركيا مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
سجل وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون أن تركيا دفعت لداعش مقابل النفط. ولكن لمَ علينا أن نتفاجأ؟ فحزب العدالة والتنمية للرئيس أردوغان مشتقٌّ من جماعة الإخوان المسلمين التي ما زال يدعمها. لا تتفاجأ بقيام أردوغان باستخدام داعش. لقد دَعمت تركيا منذ فترة طويلة وتستمر في دعم الجماعات المتطرفة بما في ذلك جماعة النصرة و هي فرع من تنظيم القاعدة. وقد قال أردوغان نفسه منذ عدة سنوات: "الديمقراطية قطار نركبه للوصول إلى وجهتنا." كما سُجن أيضاً لقوله: "المساجد هي ثكناتنا، والقباب هي خوذاتنا، والمآذن هي حرابنا، والمؤمنون هم جنودنا".هل هذه كلمات لزعيم منتخب في العالم الغربي! فتحت قيادته يتعرضون الليبراليون للاضطهاد وتم منح ما يصل إلى 5.000 من الجهاديين حرية المرور إلى سوريا والعراق و الكثيرون منهم عادوا تحت ستار اللاجئين لنشر الرعب في بلادهم. منذ فترة طويلة تم الاعتراف بذلك من قبل اللاعبين الرئيسيين من أوباما إلى وزير الدفاع الأمريكي آش كارتر. وإذا كنت بحاجة إلى دليل إضافي فقام ملك الأردن عبد الله حليف للولايات المتحدة والغرب مؤخرا بتوضيح للكونجرس الأمريكي أن تركيا كانت ترسل متطرفين إسلاميين إلى أوروبا كجزء سياستها!
الوزير البريطاني ديفيد ديفيس الذي يقود حالياً مفاوضات لمغادرة الاتحاد الأوروبي، نقل عن يوسف القرضاوي، من جماعة الإخوان المسلمين رؤية الإسلام "للفتح السلمي" للغرب الذي سيجري من خلال عضوية الاتحاد الأوروبي. في الواقع، العديد من أصدقائي الإنجليز الذين صوتوا لصالح 'البريكسيت' لم يفعلوا ذلك لأسباب اقتصادية ولكن لأنهم لا يرغبون في مشاركة العضوية مع تركيا. قبل أسبوعين، في واشنطن صاغ المشرعون خطابًا يدعو فيه وزير الخارجية ريكس تيلرسون إلى تسمية جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية أجنبية. يأتي هذا على خلفية مشروع قانون قدمه السناتور تيد كروز يقترح فيه نفس الأمر. وبالطبع اعترض الرئيس أردوغان على ذلك وفي الصيف الماضي نشر معلومات عبر الأقمار الصناعية توضح بالتفصيل موقع جميع المواقع العسكرية الأمريكية في شمال سوريا مما أثار غضب الولايات المتحدة بالطبع وقاد البنتاغون مباشرة إلى الاعتراف بأن لديها 1.500 جندي إضافي في الميدان بالإضافة إلى الـ 500 الذين أعلنت عنهم سابقًا.
لا يزال أردوغان يشكل خطراً على أي سلام محتمل. لا يمكن الوثوق به ولكن هناك آخرون داخل نظامه يقدمون بعض الأسباب للتفاؤل. ويشمل ذلك رئيس الوزراء بينالي يلدريم الذي يسعى للعمل كحافز للجمع بين الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران لوضع حد لسفك الدماء في سوريا. وفي الوقت نفسه، فإن روسيا متحالفة مع تركيا وإيران لكنها لديها دوافع خفية دون الرغبة حقًا لأي منهم في النجاح. ولذا فقد تقربت من الحكومة المصرية . نعم، أينما نظرت، فإنك ستجد يد لروسيا. لقد استفادت من فراغ و لديها استراتيجية واضحة و حديد وترتيب أعدائها حسب الأولويات. يجب على الغرب أن يدرك هذا ويتعلم من أخطائه السابقة.
هذا هو السياق الذي نعود فيه إلى الرئيس ترامب. وتغيير واضح في الاتجاه الاستراتيجي. قد لا يقوم الرئيس بالتواصل بطريقة لبقة لكنه يوصل إلى النقطة بسرعة. وهو يعرف أن الاختيار بين الجماعات الإسلامية يشبه اختيار مرض قاتل.
فمن أهم الأشياء قام الرئيس ترامب بزيارة للمملكة العربية السعودية هذا العام حيث اتُّخِذ موقف جديد و شجاع من قبل جلالة الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان و قد وعدوا بمعالجة التطرف داخلياً وخارجياً. وقد أدى ذلك إلى تهميش قطر مع فرض عقوبات كبيرة عليها بما في ذلك الحظر التجاري والجوي الذي لا تفرضه المملكة العربية السعودية فقط ولكن أيضاً من قبل بعض الحلفاء المهمين في المنطقة. هذه نتيجة ممتازة حقاً في مثل هذه الأوقات العصيبة. يجب أن نثني على هذين الزعيمين أصحاب الرؤية لأن التطرف لا يمكن محاربته إلا على الأرض إذ يجب أن تتم مواجهته من منبعه.
في أوائل سبتمبر أمر الملك سلمان بإنشاء سلطة لفحص استخدامات "الحديث" أقوال أو أفعال أو عادات الرسول صلى الله عليه وسلم للاستخدام الإيجابي. وقبل أكثر من أسبوع بقليل في الرياض، جمع ولي العهد وزراء الدفاع من جميع أنحاء المنطقة وقال "لن نسمح للإرهابيين بتشويه ديننا المسالم. وتعهد بمتابعة الإرهابيين حتى يتم: "محوهم من على وجه الأرض". وقبل أيام قليلة، قال الرئيس الفرنسي ماكرون إنه سيضع قائمة بالمنظمات المتطرفة لتوصيلها إلى المملكة العربية السعودية بعد أن تعهد ولي عهدها بملاحقتهم و قطع التمويل عنهم. من وجهة نظر شخصية جعلني هذا فخوراً للغاية. لقد دعوت الولايات المتحدة والسعودية لاتخاذ هذا الموقف لسنوات عديدة. كما دعوت الغرب للتعامل مع قطر التي تستثمر أموالها بسعادة مع تجاهل زملائها المستفيدين.
لقد فعل رئيسكم ذلك و انتقد قطر في دعمها للإرهاب وأشاد بالعقوبات التي فرضتها المملكة السعودية وشركاؤها. فقامت قطر التي أصبحت في حاجة ماسة للشركاء للتقرّب من إيران.
هذا يوفر لها الحماية على المدى القصير من التحالف السعودي و قامت تركيا بعد ذلك بنشر 5000 جندي في مركزها العسكري في قطر.
فرنسا تحاول رفع العقوبات حيث أشار ريكس تيلرسون إلى المشكلات اللوجستية التي تسبب فيها الحصار و لكن يجب على ترامب و المملكة أن يثبتا موقفهما.
قام وزير الخارجية المصري بوصف التمويل القطري للجماعات الإسلامية في ليبيا التي مزقتها الحرب وفي شهر أيار، اتهم رئيس الجيش الوطني الليبي اللواء خليفة حفتر قطر مباشرة بدعم الجماعات الإرهابية في ليبيا من خلال تمويل المرتزقة والجماعات المتطرفة. إنها لا تزال تشكل تهديدا خطيرا للأمن الدولي.
وفي الوقت نفسه، يُترك فصيلان مهمّان وغير ممثَّلين تمامًا: الأكراد و الـتجمع القومي الموحد الذي يترأسه الدكتور رفعت الأسد و هو أقدم وأكبر حزب معارض في سوريا من قبل عام 1984.
النتيجة الأكثر احتمالا الآن هي خلق ائتلاف يضم النظام ورئيسه الأسد بدعم من إيران وروسيا مع مطالبة الولايات المتحدة بالانسحاب بموجب القانون الدولي لأنه لم يتم دعوتها من قبل الدولة السورية. هذا سيعيد شمال سوريا مرة أخرى إلى سيطرة النظام مع تهميش الأكراد كما أكد الرئيس ترامب للرئيس أردوغان أن الولايات المتحدة لن تزوّدهم بالسلاح بعد الآن. ومع وجود للأتراك داخل محافظة إدلب السورية سيكون الأكراد محاطين بالكامل بإيران والعراق وسوريا وتركيا ولكل منهم أسباب وجيهة لتدميرهم. هذا خاطئ تماماً.
يجب أن يعامل الأكراد كمواطنين متساوين في سوريا فإنهم جزء أساسي من فسيفساء سوريا الجميلة التي وصفتها بالفعل. هذه الفرصة الوحيدة لإنشاء معارضة تمثيلية مفتوحة لأي مجموعة طالما أنها تلتزم بالمساواة بين جميع المواطنين في ظل سيادة القانون. ويجب أن يكون هذا هو هدفنا الوحيد إذا كان هذا التقسيم المتأصل في سوريا سينتهي. أعتذر إذا كانت بعض حججي مليئة بالتفاصيل. فهدفي هو إثبات وجود مادة لا غنى عنها وراءها. وهي أن الغرب كان مسؤولاً عن العديد من الأخطاء في الشرق الأوسط كان للعديد منها تأثير مروع على سوريا.
ولكن هناك بديل وبعد سنوات من إلقاء الخطب للحكومات ومراكز الفكر و الجامعات والجماعات الديمقراطية أشعر أن الأحداث تتحول للأفضل وإن كان ذلك في سياق العدوان العالمي الذي يجب تخفيفه على الأقل حتى يتم الفوز بأكبر حرب منهم في الشرق الأوسط والمناطق المحيطة بها. يجب أن نتوقف عن تصديق أننا قادرون على حل قضايا المنطقة عن طريق إيداع الطغاة ثم الأمل في تحقيق الأفضل وراء ذلك. يجب أن نعمل مع الحلفاء الجدد والقدامى لتشكيل ديمقراطية جديدة. للبحث عن حلول ليس فقط لسوريا، ولكن للعراق أيضًا بما في ذلك النظام الفيدرالي إذا كان ذلك من شأنه أن يبقي هذه البلدان موحدة.
اننا نجتمع هنا في أكبر دولة فيدرالية في العالم وديمقراطيتكم صمدت أمام اختبارات الزمن.
مهما حدث، فنحن نشهد في الحقيقة معاهدة سايكس بيكو جديدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط لكن هذه المرة ليست القوى الاستعمارية هي التي تشكل الحدود لكن شعوب الشرق الأوسط أنفسهم. لسوء الحظ، يفعلون ذلك على أسس طائفية ودينية وعرقية لكنهم هذه لا يستطيعون إلقاء اللوم بشأن العواقب الدموية على المؤامرات الخارجية والتدخل الأجنبي. يمكنهم فقط إلقاء اللوم على أنفسهم.
لم يكن هناك نقص في القوى الأكثر استقرارًا والأغنى والأكبر الذين يتطلعون إلى استخدام مشاركتهم في سوريا لمصالحهم الخاصة. هذا ما قامت به كل من إيران وتركيا و بعض دول الخليج غالبًا ما يكون ذلك خطأً في الاعتقاد بأنه سيسمح لهم ان يقرروا مستقبل نفوذهم. في الواقع، هناك قوى أخرى من المصالح و لكن هذه القوى هي أكبر وأغنى وأكثر قوة تبحث عن مصالحها الذاتية. للولايات المتحدة وروسيا مصالح خاصة في المنطقة وخارجها. وفي نهاية المطاف، يجيبون على جمهورهم في بلادهم. إنهم يعلمون أنه نادراً ما يتم كسب الشعبية من خلال السياسة الخارجية وإنما من خلال الفوائد الاقتصادية التي يحققونها لشعوبهم. ولهذا السبب، على الرغم من أنني أُناشد الولايات المتحدة بأن تتصرف بطريقة معينة الا أنني لا أطلب منكم أن تتحملوا مسؤولية مستقبلنا. لقد حان الوقت لشعوب الشرق الأوسط، شعبي، ان نتحمل المسؤولية عن مصيرنا. الانقسامات الدينية والطائفية والعرقية والقبلية تأخذنا في اتجاه واحد. إنه دموي وكارثي. فقط عن طريق احتضان بعضنا البعض والوقوف معا في وجه أولئك الذين لن يفعلوا ذلك يمكننا خلق مستقبل أفضل.