في عام 1907 وُلِد طفل اسمه عبدالله القصيمي في «خب الحلوة»، أصبح الآن أحد أحياء مدينة بريده، في منطقة القصيم وسط السعودية. عاش القصيمي طفولة قاسية. انفصل أبواه وهو لم يبلغ الرابعة من العمر. تركه والده وهاجر إلى الشارقة. تزوجت أمه برجل آخر، وتركت طفلها عند جده. دفعه الجد للعمل وهو ابن خمس سنوات. بداية بائسة لطفل أنشأ خطاباً هائلاً وصاخباً في الثقافة العربية. صنعت أفكاره الجريئة، ولغته البليغة المتفرّدة، سجالات وحوارات متواصلة في الساحة الثقافية العربية منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى وفاته، مطلع عام 1996. المحامي المصري إبراهيم عبدالرحمن، عاود نشر سيرة عبدالله القصيمي، ومضمون فكره، في كتاب مهم ومثير، صدر بداية هذه السنة، عن «دار جداول» في الرياض، بعنوان «خمسون عاماً مع عبدالله القصيمي». الكتاب رواية ممتعة، تحكي قصة أهم كاتب ومفكر في العالم العربي خلال القرن العشرين. أثّر في جميع المثقفين في مصر ولبنان وسورية وليبيا واليمن، وصنع اللغة الجديدة التي يكتبون بها اليوم. عُرِف القصيمي في مصر التي وصل إليها عام 1927، بـ «الداعية الأول للوهّابية والمدافع العنيد عنها والناطق الرسمي باسمها». خاض مواجهة مع الأزهر بعد إصدار كتابه الأول «البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية»، وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر. أغضب علماء الأزهر الذين اعتبروا الكتاب تجرّؤاً من طالب أجنبي على عضو في «هيئة كبار العلماء» أكبر هيئة في الأزهر. أُبعِد من الجامعة التي كان يحلم بالوصول إليها. وصدر قرار في آذار (مارس) عام 1932 بفصل القصيمي من الأزهر. انتقل إلى مبارزة العلمانيين، وأصدر كتاب «نقد كتاب حياة محمد». لكن التغيير الحقيقي في فكر القصيمي بدأ مع كتاب «هذي هي الأغلال». بعد صدور هذا الكتاب تعامل معه الأزهر على نحو يؤكد أنه مؤسسة مختلفة عن غيرها من المؤسسات الدينية في العالم العربي. تصدّى شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق للهجوم على القصيمي. والشيخ محمود شلتوت الذي أصبح في ما بعد شيخاً للأزهر، قال عن الكتاب: «الشيء الذي يؤسفني أن الأزهر، وعمره ألف عام، لم يستطع أن يضع مثل هذا الكتاب». لذلك، فإن موقف الأزهر من اجتهادات إسلام البحيري، أخيراً، لم يكن مفاجئاً لنا. وهو تحمّل فكر القصيمي سابقاً، وتسامَحَ معه. وسيرة القصيمي تشهد بأن معاناته في مصر كانت مع المؤسسة السياسية، لا مع الأزهر والمثقفين المصريين. ولكن، على رغم موقف الأزهر، فإن سيرة عبدالله القصيمي تشير بوضوح إلى أن العالم العربي شَهِدَ تراجُعاً في التعامل مع حرية التفكير، منذ نهاية السبعينات من القرن العشرين. لهذا، نشر آخر كتابين له في باريس، بسبب رفض طباعتهما في العالم العربي، والأهم أن الصحافة والمثقفين في العالم العربي تجاهلوا صدورهما، ولم يُكتب عنهما شيء يذكر. كان آخر كتاب صدر له في باريس عام 1986، بعنوان «يا كل العالم لماذا أتيت». لا شك في أن سيرة القصيمي اشتملت على كل الآراء والأفكار التي تناولتها كتبه. ولعل من الآراء اللافتة رأيه بالثورات والثوار السياسيين، وهو يصف الثائر السياسي بقوله: «الثائر إنسان يحوّل طموحه ونقائصه وهمومه الخاصة إلى تعبيرات اجتماعية حاقدة». ويضيف: «فالثائر ليس إلا لصاً أو قاتلاً أو تاجراً اضطرّته الظروف، أو اضطرّه النصر إلى أن يغيِّر سحنته ويخفي ذاته وملامحه الحقيقية». الأكيد أن عبدالله القصيمي أفضل من فسّر ظاهرة الإرهابي، على رغم أنه لم يسمِّها. وهو قال: «وأما الشجاعة فهي أن تكون جباناً جداً حتى لا تستطيع أن تجسر على عصيان تعاليمك وتاريخك وطغاتك، حينما يدفعون بك إلى أن تقتل نفسك، وتقتل أيضاً أبرياء مغلوبين مثلك، دفع بهم جبنهم إلى أن يكونوا شجعاناً على قتلك وقتل أنفسهم لأنهم ليسوا شجعاناً على عصيان تاريخهم وطغاتهم وتعاليمهم الآمرة لهم بأن يموتوا دون أن يعرفوا لماذا، أو يسألوا ما الثمن». * نقلا عن "الحياة"