يجادل الكثير دائما من داخل وخارج الوسط الإعلامي بكل صنوفه، هل الأولوية للحرية أم للمسؤولية عند الإعلامي أو الصحافي؟ هل يهتم الإعلامي بسقف الحرية الذي يعمل تحت إطاره والذي يتمثل في شكل النظام السياسي وأهدافه، وكذلك القوانين المعمول بها، ولا يمكن أيضا تجاهل طبيعة المجتمع وعقيدته وقيمه في مستوى هذا السقف، وعليه أن يعمل دائما لرفع هذه السقف بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع استعداده لتحمل المخاطر التي قد تنتج عن ذلك؟ أم أن المهمة الأولى للإعلامي هو ممارسة (المسؤولية)، وبصورة دقيقة أن يتنازل عن عرض كثير من الأخبار والمعلومات إذا كان يقدّر أن تلك المعلومات تلحق ضررا بالبيئة التي يشتغل فيها، سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو أدبيا؟
لا أحد يمكنه أن يجيب على هذا هذا التساؤل الجدلي بصورة مطلقة وبصورة مماثلة في كل الأوقات وفي كل الأماكن، فإلاعلام وإن كان له قواعد مشتركة ومبادئ موحدة لدى المشتغلين فيه ولدى المؤسسات الإعلامية على مستوى العالم والخبرة البشرية، إلا أن التفاصيل تختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان محكومة بالأنظمة السياسية والقوانين وأحيانا الأعراف الاجتماعية، وأحيانا كثيرة (المصالح الزمنية) التي تتعلق بالدولة أو المجتمع، فيما يرتخي فيه سقف الحرية اليوم قد يرتفع فيه غدا إلى مستويات عليا كما تلك القيود التي يفرضها (الأمن الوطني National Security في الولايات المتحدة).
لخص الصحافي الأمريكي جاي ليبلينغ في القرن الماضي حرية الصحافة بقوله "حرية الصحافة مكفولة فقط لأولئك الذين يمتلكونها"، وهي تعكس أن الحرية في هذا الخصوص لا تعطى من جهة معنية بل هي مملوكة للصحافي وهو يتحرك فيها أفقيا ورأسيا وفق تقديراته.
والحديث هنا ليس عن الحرية في الإعلام السعودي، وهي حرية يرتفع سقفها وينخفض وفف عوامل عديدة، يمثل الصحافي الفرد العنصر الأساس فيها، ورغم إن ذلك قد لا يروق للبعض، إلا أن ذلك حقيقة، فالسقف الإعلامي يختلف من صحافي وآخر ومن وسيلة إعلامية وأخرى وفق تقديراتهما ووفق قدرتهما على تحمل المخاطر التي قد تنشأ عن ذلك السقف، بل الحديث عن المسؤوليات التي يحملها المتلقي للإعلام السعودي والتي تضع الإعلام تحت (ضغط المهام) إن صح التعبير.
الضغوط التي يواجهها الإعلام السعودي؟
في دول الغرب وقليل من دول العالم الثالث، تتوزع مهام مراقبة أجزة الدولة ونقل مطالب المجتمع لصناع القرار ومراقبة حراك المجتمع أو تراجعه بين عدة مؤسسات، بما فيها مؤسسات الإعلام، ومن تلك مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة مثل النقابات أو الجمعيات المهنية أو الغرف التجارية، والمجالس المنتخبة على مستوى الدولة أو المجالس المحلية، وتقستم هذه المؤسسات المهام مع الإعلام في عكس مطالب المجتمع والفئات المعنية التي تمثلها وحتى الأفراد إلى الحكومة، بل إن الإعلام ينسحب من بعض المواقع التي تكون فيها مؤسسات المجتمع المدني ناشطة، وربما يقتصر دوره على النقل حسب الحاجة ولا يتخذ فيها موقفا ولا يهتم بقضيتها بصورة تجعله طرفا فيها أو متبنيا لها.
إعلامنا السعودي وربما يشترك معنا في ذلك عديد من دول المنطقة بدرجات مختلفة، يواجه ضغطا كبيرا وتاريخيا مما سميناها عنا (ضغط المهام)، والتي تضعه دائما تحت تقديرات المجتمع بأكمله وبكل فئاته، وتحت مطالب مؤسسات الدولة أو الأهداف العليا للدولة، ذلك لأنه لا يوجد مؤسسات مجتمع مدني ولا مجالس بلدية محلية فاعلة، تعكس هموم الفئات التي تمثلها أمام الجهات الحكومية.
يقصد بمؤسسات المجتمع المدني في العموم الجمعيات التي ينشئها أشخاص وتعمل لنصرة قضية مشتركة. وهي تشمل المنظمات غير الحكومية، والنقابات العمالية، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، والنقابات المهنية، ومؤسسات العمل الخيري. والميزة المشتركة التي تجمع بين منظمات المجتمع المدني كافة، على شدة تنوعها، فهي تتمثل باستقلالها عن الحكومة والقطاع الخاص أقله من حيث المبدأ. ومن هذا التعريف أو التوصيف يمكن القول إن وجود مؤسسات مجتمع مدني فاعلة، تؤدي أدورا رقابيا وتسعى لتحقيق مطالب للفئات التي تمثلها، وبالتالي هي تتقاطع مع عدة مهام للإعلام، وعلى ذلك فأنه من الطبيعي حين تمارس هذه المؤسسات دورها فأنها تخفف الضغط أو تخفف من عديد من المهام التي يؤديها الإعلام في حال غيابها.
من المهم الإشارة إلى أن هناك عامل لا يمكن إغفاله يزيد من (ضغط المهام) على الإعلام السعودي، وهو عامل مهم جدا لكن ليسنا بصدد الحديث عنه الآن، وهو غياب صحف المدن أو المناطق التي تهتم بالمسائل المحلية والتشغيلية، بحيث تتفرغ الصحف الكبرى (الوطنية أو القومية كما تسمى أحيانا) للقضايا العامة أو الكبرى، لكن غياب هذا النوع من الصحف يجعل صحفنا تشنغل أو تهتم بالقضايا المحلية البدلية بدرجة قد لا تقل أحيانا (من حيث المساحة) بالقضايا التي تمثل رأيا عاما على مستوى الوطن.
الحرية أم المسؤولية؟
ما علاقة (ضغط المهام) التي نشأت بدرجة أولى من غياب مؤسسات المجتمع المدني في المملكة وبين الحرية والمسؤولية لدى الإعلام السعودي؟ وهنا نقصد الصحف المستقلة وليست القنوات الحكومية الرسمية. لا يوجد دراسة مستقلة محايدة تراعي الظروف المحلية الخاصة وتظهر بدراسة توضح أيهما يحظى بأولوية لدى الإعلامي السعودي: مطمع الحرية أم ممارسة المسؤولية؟
التقييمات التي تظهر سنويا من مؤسسات أجنبية حول حرية الإعلام في العالم وتتذيل دول العالم الثالثف في الغالب ذيل القائمة، تستند في التقييم إلى قواعد موحدة، لا تراعي طبيعة الأنظمة السياسية ولا تهتم بعقيدة المجتمع الذي تعمل فيه الوسيلة الإعلامية مثلا، وهذا لا يقلل من عمل تلك المؤسسات وتقييماتها، لكنه لا يصلح دائما ليكون دليلا قاطعا يمكن أن تأخذ به أي دولة لمعالجة خلل إعلامها. وبالتالي ربما من المناسب ودجود دراسات تخص كل إعلام دولة على حدة.
لكن وحتى ظهور مثل هذه الدراسات المحلية المحايدة، يمكن الترجيح بصورة عامة قابل للنقض أن إعلامنا السعودي يمارس بدرجة عالية المسؤولية على حساب سعيه لرفع سقف الحرية التي يتطلع لها كل إعلامي، وهو لا يفعل ذلك عن قصد بل نتيجة (ضغط المهام) التي سبق الإشارة إليها.
يمكن الإشارة بصورة عابرة، أن مؤشر حرية الصحافة لعام 2019 وفق التصنيف السنوي لمنظمة "مراسلون بلا حدود" سجل تراجعا في عدة دول، منها بعض الدول الإفريقية. عربياً حققت تونس هذا العام قفزة ملحوظة في حرية الصحافة واحتلت المرتبة الأولى في العالم العربي.
وعودة إلى الإعلام السعودي في جانب صحفه (المستقلة)، ربما ليس تجنيا أن نجزم بأن كل صحافي ممارس أو كاتب عمود صحفي يطمح ويسعى لسقف أعلى من الذي يعمل فيه، غير أن المهام المتعددة للصحف في جوانب التقارير والتحقيقات وخلافه وكذا الكاتب الصحافي، تدفع إلى ممارسة المسؤولية ونقل الأحداث والوقائع ورفع الهموم العامة لصناع الرأي، على حساب - في الغالب - أن يطرح قضايا جوهرية مستقبلية تتطلب منها سقفا أعلى من الحرية.
يمكن ملاحظة ذلك (الملاحظة مهج علمي) من خلال عينة عشوائية من الصحف المحلية لأيام عشوائية أيضا، حيث يظهر أن المسائل البسيطة وربما الحالات الفردية تأخذ حيزا من الصحف لا تقل كثيرا عن القضايا الاستراتيجية أو المستقبلية أو تلك القضايا المتعلقة بالوهم والوطني والمصالح العليا، ولاتقل كثيرا عن الطروحات المتعلقة بالمستقبل وطموح المواطن. المقصود قوله ألا نحمل إعلامنا تراخي سقف الحرية فيه، وفي الوقت نفسه نتوقع منه أن يعكس كل حالة فردية أو ضيقة على صفحاته، وحين يتهاون في ذلك نعتبره (تقصيرا مهنيا).
الذين يتاح لهم مطالعة الصحف ووسائل الإعلام في أوروبا مثلا أو الولايات المتحدة، يفهمون جيدا ذلك، ويفهمون أن كثيرا من المسائل التي يطرحها الإعلام السعودي، هي ليست من مهامه، بل هو يمارسها كمسؤولية في ظل غياب مؤسسات أخرى تؤديها.
فهل سيتغير التصور أو الواقع في الإعلام السعودي فيما لو نشأت مؤسسات مجتمع مدني فاعلة حقا؟ بالمنطق العملي وقياسا على تجارب دولية في العالم، يفترض ذلك، ولا أظن صانع القرار الراشد لا يريد إعلاما حرا يسانده في صناعة القرار، على أن يراعي القواعد الخاصة لزمان والمكان. انتهينا لما يمكن أن يكون مدخلا لدراسة مستقلة عن الإعلام السعودي ما بين ممارسة المسؤوليات العديدة والتي يفترض أن يكون بعضها خارج مهامه، إلى مساعي الإعلامي نحو رفع سقف الحرية لطرح قضايا شائكة يعتقد أنها ملحة في الإصلاح الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي أو خلافه.
هل نحن أمام مرحلة مختلفة؟
لا أظن ذلك يحدث من باب الصدفة، كثيرون يعتبرون رئاسة المملكة العربية السعودية لمجموعة العشرين 2020 واستضافتها للقمة في نوفمبر المقبل تحديا كبيرا، نقصد على المستوى الإعلامي، وليس أدنى شك أن إعلامنا خاض تجارب عديدة وتحديات كبيرة، نجح فيها، غير أن هذا التحدي يختلف لاختلاف رميزنه وطبيعته من جهة لاحاجتنا له أصلا من جهة ثانية.
رسالة صانع القرار تجاه إعلام القمة التي لمسها الإعلاميون مباشرة: حرية، إبداع، مشاركة. هل يمكن القول إن صانع القرار (الأعلى) ارسل للإعلام السعودي رسالة، ويرغب في أن يرفع سقف طموحه ويرتفع سقف حريته في القمة، والحرية ستؤدي إلى إبداع إعلامي بالضرورة، وهنا ستبرز إمكانية الصحافي الفرد و إمكانيات المؤسسة الإعلامية التي يتبعها. أعتقد أن التحدي الآن أصبح حقيقة ماثلة، ستبرز أدوات الصحافي الفرد في الاجتماعات المصاحبة للمجموعة وصولا إلى القمة في نوفمبر 2020.