2015-10-10 

الرأى العام منسيا

فهمي هويدي

تذكرون قصة الرجل الذى تباهى أمام أصدقائه بأنه ما عاد مشغولا بالقضايا الصغرى التى تشغل محيطه، وانه تفرغ لمعالجة القضايا الكونية الكبرى. وضرب لذلك مثلا بأنه صار منكبا على معالجة قضايا البيئة وثقب الأوزون والتصحر وسباق التسلح فى العالم وألاعيب صندوق النقد الدولى واحتكار الدول الكبرى للقرار فى مجلس الأمن...إلخ. ولكى يوضح موقفه أمام سامعيه فإنه أخبرهم بأنه ترك القضايا الصغرى لزوجته تتصرف فيها كما تشاء، من تسلم المعاش وتوفير مستلزمات البيت وتعليم الأولاد وعلاجهم إلى التصييف وتزويج البنات وتأمين الأسرة وغير ذلك. ما فعله صاحبنا كررناه فى مصر معكوسا. فأعلنا انه سيتم استطلاع الرأى العام فى مسألة «مهمة» مثل تطبيق التوقيت الصيفى، ودعيت المؤسسات المعنية والمنابر الإعلامية ذات الصلة إلى رصد اتجاهات الرأى العام وتحديد موقف المجتمع من المسألة. وفى الوقت ذاته فإننا تجاهلنا الرأى العام فى أمور أخرى «غير مهمة» مثل مشاركة مصر فى الحرب الدائرة باليمن، وفكرة إقامة عاصمة جديدة للبلاد، وإعادة تقسيم محافظات وأقاليم مصر، وتخفيض الضرائب على الأثرياء، ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وحزمة القوانين المقيدة للحريات من قانون التظاهر إلى قانون الكيانات الإرهابية مرورا بتعديلات قانونى المرافعات والإجراءات الجنائية. ليست هذه مزحة لأن الكلام كله جاد. ذلك ان جريدة الأهرام نشرت يوم أمس (١٢/٤) خبرا أبرزته على الصفحة الأولى ذكر ان المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء كلف مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بإجراء استطلاع للرأى بين المواطنين بشأن تطبيق التوقيت الصيفى من عدمه، كما انه ناشد وسائل الإعلام المختلفة التى بها مراكز لاستطلاع الرأى ان تجرى هى الأخرى استطلاعا بهذا الشأن وتوافيه بالنتيجة. ليس عندى شك فى حماس وإخلاص المهندس إبراهيم محلب، وليس لدى أى تحفظ أو اعتراض على استطلاع رأى المواطنين فى مسألة تطبيق التوقيت الصيفى. لذلك فإن كلامى ليس فيه أى استنكار لما دعا إليه بهذا الخصوص، لكن الغيرة هى التى دفعتنى إلى ما ذكرت. أعنى أن سؤالى هو كالتالى: إذا كنا مهتمين باستطلاع رأى الناس فى مسألة تتعلق بتنظيم أوقاتهم، فلماذا تجاهلناهم فى أمور أخرى تتعلق بمصائرهم وحرياتهم؟ ولماذا يصبح استطلاع رأى الناس استثناء وليس قاعدة؟ إحدى الإجابات يمكن أن تساق فى هذا الصدد أن ثمة أمورا يملكها رئيس مجلس الوزراء بحيث يستطيع أن يبادر أو يتصرف فيها، كما ان هناك أمورا أخرى لا سلطان له عليها، ومن ثم فإنه لا يستطيع أن يقدم أى مبادرة بخصوصها. وهو ما يعنى أن المقامات العليا درجات، فهناك سياسة عليا فى البلد إلا أن هناك أيضا سياسة أعلى. وذلك مجرد تخمين بطبيعة الحال، لاننا لا نعرف بالضبط معالم خرائط السلطة، وما هى القيادات أو المؤسسات التى ينطبق عليها الوصف الأول أو تلك التى تنسب إلى المرتبة الأعلى. والملاحظ أن ذلك موضوع يكتنفه الغموض، وتتعدد فيه الاجتهادات. فالصحف تتحدث أحيانا عن مصادر «سيادية» لا نعرف معالمها ولا شخوصها، ثم اننا قرأنا أكثر من مرة تساؤل بعض المراجع عن وجود وهوية فريق الرئيس. وأمس قرأنا للدكتور مصطفى الفقى حوارا فى صحيفة «المصرى اليوم» ذكر فيه ان الغموض من بين أبرز سلبيات المرحلة، وأعرب عن اعتقاده أن الرئيس السيسى يريد أن يتخذ من جهاز المخابرات العامة ومن رئيسه ونائبه مكتبا له. وفى حواره فإنه رجح «إلى حد كبير جدا» ان يكون لجهاز الأمن الوطنى والمخابرات العامة دورهما الكبير فى تشكيل قائمة فى حب مصر، التى هى أبرز القوائم التى ظهرت أثناء التمهيد للانتخابات البرلمانية. وهى معلومة تسلط الضوء على تجليات الأزمة التى نحن بصددها. إذ فى حين أن قائمة بهذه الأهمية يفترض أن تمثل الرأى العام، فإذا بنا نكتشف أنها فى حقيقة الأمر تمثل جهاز الأمن الوطنى والمخابرات العامة. إن الرأى العام فى المجتمعات الديمقراطية طرف فاعل فى الحياة السياسية. وهو الذى يصنع القرار السياسى، وهو الذى يراقب تنفيذه ويحاسب عليه. أما فى المجتمعات غير الديمقراطية فالرأى العام فى أحسن أحواله متفرج على القرار السياسى وليس صانعا له. وحضوره فى الوثائق المكتوبة أضعاف حضوره فى آلية صناعة القرار السياسى. إن شئت فقل انه «البطل» الذى يقرر فى المجتمعات الديمقراطية وهو مجرد «كومبارس» يهلل ويصفق فى المجتمعات غير الديمقراطية. ليس السؤال هو ما إذا كان الرأى العام يستطلع فى هذا الشأن أو ذاك، لان السؤال الحقيقى هو ما إذا كنا بصدد ديمقراطية حقيقية أم مزورة ومغشوشة. لايكفى فى هذا الصدد أن ينص الدستور على أن الأمة هى مصدر السلطات، لان الالتزام بالنص له آلياته وتجلياته وأخطر شىء ان يقول قائل بأن الشعب بانتخابه لأى رئيس يكون قد فوضه فى ان يدير شئونه. لان الشعب فى هذه الحالة لا يمكن أن يكون حشودا خرجت وحناجر هتفت وملأت الفضاء بالصياح والضجيج. وإنما هو مؤسسات تشكلت من خلال انتخابات حرة، وهى التى حددت موضوع التفويض ومدته وراقبت تنفيذه حتى ينتهى أجله. أما استطلاع رأى الشعب بصورة انتقائية فى أمور تنظيمية وتجاهله فيما يخص مصيره، فذلك ليس من الديمقراطية فى شىء وإنما هو من باب حسن التدبير الذى نعتبره أمرا محمودا، لكنه ليس كافيا ولا شافيا. * نقلا عن "الشروق"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه