إذا كانت الزراعة هي ثاني حرفة اكتسب منها الإنسان الأول مصدر رزقه على اعتبار أن الحرفة الأولى ليس لها مقام في هذا المقال، كما أننا نزعم أن التعامل مع الأرض بالزراعة سبق الرعي والصيد عندما بدأ الإنسان الأول يحتل قطعة أرض يعيش عليها ويأكل منها، ولقد نشأت أجيال مصرية عبر قرون طويلة وهي تعلم أن مصر بلد زراعي تفوق في تلك الحرفة التاريخية حتى أصبح الفلاح المصري نموذجاً للعطاء منذ العصر الفرعوني، ومسألة الزراعة لا تعني واحدة من حرف الحياة فقط، ولكنها تعبر في الوقت ذاته عن نسيج اجتماعي معين، فالمجتمعات الزراعية تختلف في تكوينها وطبيعة تأثيرها عن المجتمعات الصناعية . وإذا كنا نسلم بأن التصنيع الثقيل هو قاطرة التقدم لكثير من الدول، إلا أننا لا ننكر أن الزراعة الكثيفة هي "عمود فقري" للاقتصاد القومي، ويكفي أن نتذكر هنا أن دولة مثل الهند قد أعلنت منذ سنوات قليلة أنها أصبحت دولة "اكتفاء ذاتي" من الحبوب الغذائية لملايينها الذين يتجاوز عددهم المليار ومئتي مليون نسمة . فقضية الطعام مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالناتج الزراعي لكل دولة، ولقد اكتشفت مؤخراً أن الطبق الشعبي المصري وهو "الفول" بمكوناته من حبوب وزيت وبهارات مستورد كله، وهذا يعني أن طعام الفقراء في مصر ليس من ناتج أرض بلادهم، وأنا ممن يؤمنون بأن علينا أن نأكل مما نزرع وأن نلبس مما نصنع، والذين يتحدثون عن أن مصر كانت مزرعة القمح في العصر الروماني يعرفون أننا نستورده حالياً بأعلى الأثمان، خصوصاً أن رغيف الخبز في مصر هو ركيزة الحياة لشعبها والمكون الأساسي لطعام سكانها حتى أسماه المصريون (العيش) نسبة إلى أسباب الحياة واستمرارها . ولا يختلف اثنان على أن الزراعة المصرية قد تدهورت في السنوات الأخيرة وتراجعت مساحة الأراضي المزروعة بسبب "غول" البناء على الأرض بعد تبويرها بدعوى الحاجة إلى "مسكن"، فكانت النتيجة هي عدوان صارخ على الأراضي الزراعية من دون بدائل لمساحات مستصلحة تعوض ما حدث، ويكفي أن ننظر إلى خريطة "الدلتا" لندرك حجم التغيير، بل التشويه الذي طرأ على الساحة المصرية، وهنا يتعين علينا أن نطرح الملاحظات التالية: * أولاً: يرى كثير من الخبراء في شؤون الزراعة والري، بل وأيضاً أساتذة علم الاجتماع، أن هناك سببين أساسيين لتردي الحرفة التي أشتهر بها المصريون عبر تاريخهم الطويل، وهاتان المشكلتان هما الوثبات الواسعة في الزيادة السكانية بما أدى إلى الاعتداء على الأراضي الزراعية وتحويلها إلى هياكل خرسانية فجة منظراً وكياناً، والسبب الثاني هو أن قانون الإصلاح الزراعي عند صدوره - وبالمناسبة فإن ذلك القانون قد بدأت ارهاصات الدعوة إليه قبل ثورة 1952 بسنوات عدة - لم يراع أهمية تكتل الزراعة الكثيفة في المساحات الكبيرة، فأدى تفتيت الملكية إلى ضعف وسائل الإنتاج الزراعي وتخلف أساليب توفير المحاصيل، بل وتحديد نوعيتها أيضاً جرياً وراء الربحية قصيرة المدى، وذلك إذا أفلتت "القراريط" القليلة التي يملكها الفلاح الصغير من سطوة البناء عليها والرغبة الجامحة في إقامة بيت جديد وربما بزوجة جديدة أيضاً! فتحول الريف المصري الذي كان مصدراً للخير الوفير الذي تتمتع به القرية ويغطي احتياجاتها، ومعها المدينة أيضاً، إلى أن أصبحت القرية مستوردة لمعظم احتياجاتها من أسواق المدينة المجاورة، فانتهى العصر الذهبي للزراعة المصرية وتحولت الدولة إلى مستورد كبير للغذاء من كل مكان . * ثانياً: إنني أتفهم، بل وأتحمس لجانب العدالة الاجتماعية في قانون الإصلاح الزراعي لتصفية "مجتمع النصف في المئة"، ولكني كنت أتمنى أن يتحقق ذلك من خلال نظام تصاعدي للضريبة على الأطيان، بحيث تنفق عوائده على الفلاح المصري الأجير، ورفع مستوى القرية تعليمياً وصحياً مع ضرب نفوذ الإقطاع المصري في إطار القانون، وبمعايير تحكمية في الدخول المالية والنفوذ السياسي، أقول ذلك وأنا أعلم أن بعض الاقطاعيين القدامى كانوا يستخدمون وسائل حديثة متطورة في الزراعة والري والحصاد والتخزين، وقد عشت شخصياً في "دائرة" إقطاعي عصامي كان يقوم بتعفير القطن بالطائرات المروحية الصغيرة في وقت مبكر من نهاية أربعينات القرن الماضي، لذلك فإن الإصلاح الزراعي قد قضى بغير وعي على تكنولوجيا الزراعة في سبيل هدف نبيل رآه عبدالناصر ورفاقه، وهو تحقيق العدالة الاجتماعية وتصفية الإقطاع السياسي في ذلك الوقت . * ثالثاً: لقد اتسمت الزراعة المصرية تاريخياً بالاستخدام الوفير للمياه نتيجة الري "بالغمر" حتى أصبح الهدر من مياه النيل مشكلة تنال من حصة مصر الثابتة في ظل ظروف يحتاج فيها الشعب المصري إلى كل قطرة مياه، سواء بزيادة الحصة أو بترشيد المتاح منها، ولذلك، فإن الزراعة الحديثة سوف تسهم تلقائياً في حل جزء كبير من مشكلة مياه النهر على أرض الكنانة خصوصاً أن العلاقة بين الري والزراعة علاقة وثيقة ومتلازمة، إنني أقول ذلك وأذكّر الجميع بما نتوقعه من مشكلات محتملة في مياه النيل . * رابعاً: إن الربط بين الزراعة والصناعة تفكير مستحدث يؤدي بنا إلى التكامل الاقتصادي الحقيقي، وارتفاع معدلات العمالة والتشغيل، فعندما كانت مصر هي ملكة "القطن" في العالم وكان موسم الجني مصدر انتعاش للحياة الاقتصادية المصرية كلها حتى أصبح طقساً اجتماعياً للزواج في الريف على امتداد عقود طويلة، إلى أن جاءت نكسة ذلك المحصول بإرادة مصرية تحتاج إلى دراسة وتأمل . وعلى الجانب الآخر فإن الصناعات الغذائية يمكن أن تكون قنطرة جديدة بين الزراعة والصناعة، وبين القرية والمدينة، بين الريف والحضر من أجل مستقبل أفضل للفلاح خصوصاً، وللمواطن المصري عموماً . هذه بعض خواطري حول موضوع الزراعة في وقت لا يجد خريجو كُلِيتها من الجامعات المختلفة فرصاً للعمل، ويعيش المصريون على 6% من مساحة أرضهم الكاملة . . لقد آن الأوان لصحوة زراعية، لأن هناك مجتمعات أوروبية تقدمت بالزراعة وليس بالصناعة وحدها . . ليت قومي يعلمون! * نقلا عن "الخليج"