لم أسترح كثيرا لرد الفعل العربي على اتفاق إيران مع مجموعة 5+1 بقيادة الولايات المتحدة؛ فقد اتسم بالانزعاج أكثر مما ينبغي، والمبالغة الشديدة فيما حصلت عليه إيران من الاتفاق، وبالطبع غرق الأمر كله في حزمة من المؤامرات والتواطؤ، وقدر هائل من الارتعاد من المستقبل. لن نختلف كثيرا أن إيران على طريقتها الخاصة دولة «ثورية»، أي إنها ترى في الأوضاع القائمة في المنطقة ما يستحق التغيير؛ وعندما يختلط ذلك بالدين والمذهبية فإن ذلك يعني قدرا غير قليل من العدوانية ظهر بالفعل في العراق وسوريا ولبنان، وها نحن نرى أصابعها في اليمن. كل ذلك يمكن الاتفاق عليه، ولكن اعتبار التوصل إلى إطار للتفاوض مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا نوعا من الدعم لهذا الوجه الإيراني، وربما تمهيدا لتواطؤ أميركي - إيراني لإعادة رسم المنطقة من جديد، فيه الكثير من الشطط وتجاوز حقائق الأمور. النقطة التي يعتمد عليها هذا التحليل هي أن رفع العقوبات الاقتصادية والمالية والنفطية عن إيران سوف يحررها من الضغوط العالمية ومن ثم سوف يكون بقدرتها توجيه موارد أكثر في اتجاه استخدام العنف في سياستها الإقليمية. مثل ذلك يتجاهل تماما مجموعة من النقاط الجوهرية؛ أولاها أن الاتفاق قد قيد كثيرا قدرة إيران على إنتاج السلاح النووي، فقد قضى تماما على الأقل لعقدين قادمين على هذه الإمكانية عندما قضى على طموحاتها في تخصيب اليورانيوم حتى يصل إلى مستوى إنتاج القنبلة الذرية حينما خفض أدوات الطرد المركزي من 19 ألفا إلى 6 آلاف، لا تزيد قدرة أي منها على التخصيب على 3.5 مما رفع الفترة الزمنية لقدرتها على إنتاج سلاح نووي في حالة الغش من ثلاثة أشهر إلى عام. وحتى في هذه الحالة - الغش - فإن إمكانات الكشف عنه قد زادت بشدة لأن إيران سوف تقع تحت نظام للرقابة والتفتيش والدوس على سيادتها لم يسبق له مثيل. ولعله من الجدير بالتذكر أن محاولات إيران السابقة للغش والإخفاء لم تنجح فيما تعلق بمنشآتها النووية في ناتانز Natanz وفوردو Fordo؛ وكذلك أن إيران كانت قابلة للاختراق بشدة عندما عرضتها الولايات المتحدة لحملة من التخريب الإلكتروني جعلت كل محاولاتها للإخفاء والتمويه تكاد تكون مستحيلة. ثانيا أن إيران ليست ذلك العملاق الاقتصادي الذي جرت المبالغة في شأنه؛ فرغم مساحتها الكبيرة (1.6 مليون كيلومتر مربع) وعدد سكانها الكبير، قرابة 80 مليون نسمة، فإنها دولة متخلفة إلى حد كبير. فناتجها المحلي الإجمالي 403 مليارات دولار، بمتوسط لنصيب الفرد قدره 5 آلاف دولار تقريبا. هذه الحالة الاقتصادية يشوبها أمور كثيرة، فهي من ناحية مركزة في يد الدولة حيث 60 من الناتج المحلي الإجمالي إضافة إلى 30 في يد مؤسسات دينية؛ ومن ناحية أخرى فإنه اقتصاد المنتج الواحد (البترول والغاز) الذي يمثل 80 من قيمة الصادرات والعملات الأجنبية. أضف إلى ذلك توزيعا للثروة بالغ السوء حيث معدله وفقا لمعيار «جيني» هو 38 الذي لا يشير لقدر معقول من العدالة؛ ويسير معه جنبا إلى جنب قدر كبير من الفساد. ثالثا أن إيران، مثلها مثل كل الدول الثورية، أجهدت نفسها وشعبها طوال العقود الماضية بدءا من الثورة، ثم الحرب العراقية الإيرانية، ثم مجمل أعباء التدخل في العراق وسوريا ولبنان والآن في اليمن، مضافا لها العقوبات الاقتصادية والمالية والنفطية، مما سيخلق ثورة كبيرة في التوقعات الشعبية للتخلص من حالة خانقة جعلت ملايين من الخبرات الإيرانية تهاجر خارج البلاد بحثا عن الرزق وفرص العمل. إن سد هذه المتطلبات الكثيرة سوف يحتاج إلى فترة زمنية ليست بالقصيرة حتى تستعيد بعضا من عافيتها الاقتصادية خاصة أن الإدارة «الدينية الثورية» للاقتصاد والمجتمع ليست بالكفاءة التي يتصورها بعضنا، حيث نزعت إيران إلى استراتيجية التصنيع من «الإبرة للصاروخ» التي ما جربت في بلد في حجم إيران إلا وكانت نتيجتها الخراب المبين. النتيجة هي أن إيران ليست بذلك العملاق الذي ينتظر جرعة من الانفتاح الاقتصادي على العالم حتى يتغول على من حوله، فهذا ليس في أحسن الأحوال دقيقا، وعلى الأرجح أنه خاطئ تماما، لأن حالة العسكرة التي يعيشها النظام الإيراني تؤدي لاستنزاف كبير للقدرات الإيرانية. وربما كان الأهم من ذلك كله أن ميزان القوى في المنطقة ليس في صالح إيران بالمرة، فالسعودية وحدها مساحتها 2.4 مليون كيلومتر مربع، وناتجها المحلي الإجمالي 778 مليار دولار ولديها وحدها خمس أي 20 من الاحتياطي العالمي من النفط؛ وإذا أضيف لذلك قدرات دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى مضافا لها مصر، فإن إيران لا تصير متفوقة لا اقتصاديا ولا عسكريا ولا نفوذا في النظام العالمي. لقد فعلت إيران ما فعلته خلال العقود الماضية في المنطقة رغم العقوبات الاقتصادية والمالية والنفطية الواقعة عليها نتيجة قدرتها على استغلال قوى محلية سواء كان ذلك في العراق أو لبنان أو سوريا أو الآن في اليمن. والآن مع وقفة «عاصفة الحزم» فإن خطا أحمر، أو خطا على الرمال، قد وضع من قبل التحالف العربي ومن ثم فإنه لا ينبغي للاتفاق الإيراني الأميركي أن يزيد على حجمه الطبيعي بل إنه من الممكن الاستفادة منه من ناحيتين؛ الأولى أن الولايات المتحدة والدول الغربية تريد إرسال رسالة تعويض للدول العربية وهو ما يظهر من سلوكها حتى الآن تجاه الوضع في اليمن، الذي يرجع في الأساس إلى اعتقاد الولايات المتحدة، تبعا لقول جون برينان مدير وكالة المخابرات المركزية في جامعة هارفارد، أنه ليس متوقعا أن تغير إيران من سلوكياتها في المنطقة بعد الاتفاق. والثانية أن الاتفاق يعطي للدول العربية وخاصة من يريد السير في طريق تطوير قدرات نووية سلمية الحق في الحصول على ما حصلت عليه إيران. المهم أن تدار المعركة الحالية بحكمة، ووفق التوقيتات والاستراتيجيات التي جرى التخطيط لها. فلا توجد هناك عجلة من أجل حرب برية، فيجب ألا ننسى أنه في حرب «كوسوفو» استمرت الحرب الجوية ثلاثة أشهر، وفي حرب تحرير الكويت استمرت شهرا كاملا، إن التأليف ما بين عناصر السلاح في معركة مشتركة هو من الفنون العسكرية الواجب احترامها. وبالتأكيد فإن إيران سوف تحاول جذب قوى التحالف، بالإغراء أو بالابتزاز أو الاستفزاز، إلى معارك جانبية، أو معارك تجري في غير وقتها؛ وهنا فإن الأعصاب والعقول الباردة مطلوبة، والتنسيق وتعميق التحالف، مطلوب بشدة. *نقلاً عن "الشرق الأوسط"