2020-04-24 

إنها #جائحة ... جائحة جداً

سلطان السعد القحطاني

 

تغير العالم كما لم يتغير من قبل. مضت الشوارع الحية، بالألوان، والأنوار، والإنسان، التي كانت محور حياتنا، مضت إلى غير رجعة. خوت الأرض على عروشها. هناك، وهناك، وهناك. لم يبق أحد. غابت الأصوات، وغُلِّقت الأبواب، وبقي الإنسان وحيدا مع نفسه، يساءلها، وينتظر من أمنا الأرض، وجدتنا الطبيعة، صكوك غفران على ما فعله بها، وعليها. 

 

تنظر إلى قدس الاقداس، بكّة، أم القرى، وإلى مسجد النبي الأمي، ويثرب المنورة، فترى الأبواب مواربة، تفتح قليلاً... قليلا. لقد جاء الوباء على كل شيء، والتهمت الجائحة أرواحنا. 

 

لقد خليت الطرق. هنا كان ابو القاسم، ابن عبدالله، حفيد عبدالمطلب، المصطفى، عليه الصلوات والسلام، يمضي معلنا عن ولادة فجر جديد، ويبشر بالضياء الذي سيعمر الأرض برغبة من رب السماء. 

 

وهناك جاء جبريل بحزم من الضوء ينثرها في الأرواح. وهناك مشى المسلمون الاوائل، ينتظرون بشائر العليّ، بصبر جليل، ويجهزون الرواحل للرحيل في رحلة ارتحال طويلة، من أجل أخوة جدد، في أماكن لا يعرفونها.

 

وكان هناك طرفة بن العبد يذرع الجزيرة العربية، ناثراً مجون جنونه. وتنظر إلى الرمل، فتمشي على الأرض خوفا، وهونا، فما هذه الرمال، إلا رفات اجدادنا الطيبين، وتصدق حينها ابو العلاء، ثم تنظر للمتنبي، والأماكن القصية في القلب، هناك ما تبقى من حلب، وما نسيه سيف الدولة في ذاكرة الشام الغارب.

 

وكل مدينة، وكل شارع، وكل ذكرى، أصبح لها رثاؤها الخاص. 

 

ستجعلنا هذه الجائحة نرثي كل شيء تعودنا عليه، وكنا نتعامل معه على أنه من المسلمات. حتى المصافحات التي كنا نقوم بها، دون أن نشعر بها، أصبحت عزيزة. لقد عز علينا كل شيء. وأصبحت الجدران الصامتة، أوحد حديث نسمعه، وأوحش صورة نراها. 

 

وتتذكر وأنت تهدهد نفسك: على الأقل ثمة سقف، وحيطان، ودفء صغير. كم أنت محظوظ أيها الإنسان.

 

في الليل تقلب أوراق ذاكرتك، وترى الكثير من الصور. تبتسم. الشوارع التي تركض فيها، والباص الأحمر الذي يشعل روحك بالورد، والحدائق ذات الأنهار. هناك مضيت على الأرض التي عبرها الأسلاف، وتتذكر منهم شكسبير، وتشرشل، وهنري الثامن، وفيكتوريا العظمى، وأبقاهم، النهر اللندني الكبير، الذي عشت حوله دهراً كأيام سريعة، وكأنها صرصر عاتية. ألم يقل عمنا أبو محسّد: وعيشا كأني كنت أقطعه وثبا!

 

غربت الشمس الأخيرة في الروح، ولم يتبق سوى بصيص من أمل، في غد، يعود فيه العالم إلى نفسه. أن نمشي، وننظر إلى السماء، وأن نبتسم في وجه من نحب. 

 

هذه الجائحة تذكرنا بأهم ما نسينا: الإنسان. الروح. أنت. لعلها فرصتك الأخيرة في أن ترى نفسك، وتجلس معها. أن تنظر إليها مجردا من غرور العالم الخارجي، وتجلسان على كرسيين متقابلين، عاريين من كل شيء إلاّكما. 

 

 

أن تتذكر الذين هم مثلك، في أي مكان، وأي زمن. أن تتواضع لهذا العالم، وأن تقتنع بأنك صغير أمام عظمة هذا الكون المتجدد، أيها النملة البشرية. 

 

هناك حكمة في كونك سجينا، خائفا من شيء لم تره، ولم يبق لك إلا الانتظار، فابحث عن هذه الحكمة.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه