أبرمت اليونان وإيطاليا يوم الثلاثاء التاسع من يونيو 2020 اتفاقية دولية لتعيين المنطقة الاقتصادية للدولتين الساحليتين المتقابلتين في شرق البحر المتوسط ، ولأول مرة ، بعد ان كانت الدولتان أبرمتا في عام 1977 اتفاقية تعيين الجرف القاري لهما ، وأدي النزاع حول حقوق الصيد للسفن و الصيادين الإيطاليين في مياه الجرز اليونانية إلي تأجيل الاتفاق علي الاتفاق النهائي الذي اكتمل أمس في العاصمة اليونانية أثينا .
لا جرم أن الدول الساحلية حين تقوم بتعيين الحدود البحرية ، فان منافعها جراء ابرام هذه الاتفاقيات لا تقتصر علي صعيد واحد ، فمثل هذه الاتفاقيات تشكل الإطار المحدد للخط الفاصل بين سيادات الدول الساحلية ، وتحدد أيضا مجال أنشطة الدول وسيادتها ، و إطار المسؤوليات المختلفة لحماية السيادة المصلحة الوطنية من النواحي السياسية الاقتصادية ،والاجتماعية، وحتي الثقافية ، وتطبيقا للحالة الإيطالية اليونانية ، فخط الوسط الذي تم تعيينه بين اليونان و إيطاليا ، هو الذي يعين أي يحدد جملة هذه الأمور .
لا جرم أن المنطقة الاقتصادية الخالصة ليست بحرًا إقليميًّا للدولة، فلا تستطيع الدولة أن تزعم بملكيتها لها ، كما أنها ليست جزءًا من أعالي البحار التي لا ولاية لأحد عليها، فهي تجمع بين خصائص البحر الإقليمي، حيث السيادة الكاملة، فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية فقط في هذه المنطقة، وخصائص أعالي البحار من حيث الحريات المطلقة في الملاحة البحرية والجوية لكل الدول، وبالتالي فإن المنطقة الاقتصادية الخالصة هي منطقة ذات طابع قانوني خاص، فهي ليست مياهًا إقليمية، ولا هي مياه من أعالي البحار. وهي تقوم أساسًا على التمييز بين الثروات الكامنة فيها من ناحية، والاتصالات من ناحية أخرى، إذ يُعترف فيها بالمصالح الاقتصادية للدول الساحلية، مع المحافظة على مبدأ حرية الملاحة، والتحليق، ووضع الأسلاك والأنابيب بالنسبة للدول الأخر، لذلك يسمها البعض أنها بمثابة منطقة انتقالية بين البحار الإقليمية التي تتمتع عليها الدول الساحلية بسيادة كاملة لا يحدها سوى "المرور البريء"، وبين أعالي البحار التي لا ولاية لأحد عليها، حيث الحريات التقليدية المطلقة لكافة الدول.
تمثل الاتفاقية اليونانية الإيطالية رداً جوهرياً مشتركا على ما تم توقيعه في نوفمبر 2019 ، من قبل تركيا وحكومة السراج الليبية لتعيين مناطق الاختصاصات البحرية في شرق البحر المتوسط ، والتي لم تقرها دولة واحدة في العالم ، لانتهاكها الأعراف و المبادئ و القواعد الدولية لقانون البحار ، وفي الصدارة منها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 ، والتي أقرت بحقوق جزر الدول الساحلية في أن تكون لها مناطق اقتصادية خالصة و جرف قاري خاص بها .
أجبرت البارجات المسلحة التركية في فبراير عام 2018 حفار شركة إيني الإيطالية علي مغادرة مناطق الجرف القاري ، و المنطقة الاقتصادية الخاصة بالجمهورية القبرصية ، بعد أن كان الحفار الإيطالي شرع في أعمال البحث و التنقيب عن الغاز في هذه المنطقة الحيوية للجمهورية القبرصية ، مما كلف ايطاليا خسارة مقدارها 300 ألف يورو يوميا ولمد ثلاثة أسابيع ، حتي غادر الحفار المياه القبرصية إلي سواحل المملكة المغربية .
باغت الرئيس التركي كافة الدول الساحلية في العالم ، في نوفمبر عام 2019 حين أبرمت تركيا مذكرة التفاهم مع حكومة الوفاق الليبية ، لتحديد مناطق الاختصاصات البحرية في شرق البحر المتوسط ، وبالرغم من انعدام أية فرصة للتماس بين الدولتين ، لكن تلكم المذكرة تجاهلت الحقائق القانونية و الجغرافية في البحر المتوسط ، و التي لا تغمضها عين ، ولا يجهلها لبيب ، فجزيرة كريت اليونانية – خامس أكبر جزيرة في البحر المتوسط – تتوسط البحر بين الدولتين ، تركيا وليبيا ، ومن ثم من المستحيل تصور إبرام مثل هذه المذكرة الشاذة .
لا جرم أن الجزم القانوني الذي ورد في الاتفاقية اليونانية الإيطالية ، بحق الجزر اليونانية في المناطق الاقتصادية و الجرف القاري الخاص بها ، يعد رسالة قاطعة مانعة لتركيا ، ورئيسها الجامح ، الذي توهم أن زحفه البحري في شرق المتوسط ، والبري في جنوبه ، لن يمنعه مانع ، ولن يكبحه رادع .
ختاما ، لقد أثبتت الاتفاقية اليونانية الإيطالية ، ثم الاتفاقية المصرية اليونانية المرتقبة، أن فرض سياسية الامر الواقع و دبلوماسية البوارج ، لن تفلحا في كل الظروف و الأوقات ، كما تثبت الإجراءات القانونية الأخيرة لمصر و اليونان و إيطاليا ، أن القانون الدولي هو الذي يجب أن يؤطر العلاقات الدولية ، وليس قانون الغاب وشريعة البحر التركيين .