2021-01-22 

#الصحافة_الورقية .. ومن الحب ما قتل

د.سعود كاتب

مقالي هذا هو تعقيب على مقال الأستاذ خالد المالك بعنوان "على رسلك يا معالي الوزير"، والذي يرد فيه على معالي وزير الإعلام الأسبق الدكتور عبد العزيز خوجة. وسوف أتناول الموضوع من ثلاث جوانب هي:


- أولاً: تعريف سريع بمشكلة الصحافة الورقية
- ثانياً: مغالطات غير متوقعة في مقال الأستاذ المالك
- ثالثاً: الحل المقترح بعيداً عن العواطف والمجاملات


سأبدأ أولاً بتعريف موجز بمشكلة "الصحافة الورقية" السعودية كما أراها، لكي يتسنى للقارئ وللمتخصص الذي لم يعاصر نشوء وتطور المشكلة معرفة خلفيات الموضوع، والذي أزعم بأنني عاصرته بأدق تفاصيله بدءا بعملي في مجال التوزيع في منتصف وآواخر الثمانينات حيث كنت حينها أقوم يدوياً بتحديد الكميات المطلوبة من كل مطبوعة بناء على مبيعاتها ومرتجعاتها السابقة، وامتداداً للمهام المتعددة التي تقلدتها بعد ذلك.


كانت الصحف طوال الثمانينات والتسعينات تعيش رخاءً منقطع النظير وتنهمر عليها مداخيل وأرباح الإعلانات وعوائد التوزيع، حتى ظهر عن بعد "وحش" صغير سريع النمو اسمه "الانترنت" وذلك في منتصف التسعينات. وقد بدأت شخصياً عام 1994م كتابة سلسلة مقالات في مجلة المبتعث في واشنطن تتحدث عن الخطر القادم وتحذر صحفنا منه، وكررت حينها القول بأن هذا الخطر هو أكبر تهديد يواجه الصحف المطبوعة عبر تاريخها، وهو في نفس الوقت أكبر فرصة لهم في حال تعاملهم معه بذكاء ورؤية ابداعية. مقالات التحذير استمرت طوال تلك الفترة في بعض الصحف السعودية نفسها وعبر لقاءات تلفزيونية ودورات تدريبية حضرت من أمريكا خصيصاً لتقديمها للإعلاميين عام 1996م تدور حول الانترنت كخطر محدق وكنز من الفرص للمؤسسات الإعلامية في نفس الوقت.


لكن وكما ذكرت فقد كانت حينها تلك الصحف تعيش أوج عصرها الذهبي فلم يلتفت منها لهذا الأمر ويأبه له سوى صحيفتين تقريباً، في حين تراوحت أغلب ردود الفعل بين لا مبالاة كاملة أو تهكم أو إنكار صريح. هذا الإنكار والمقاومة تزايدت حدته وبدأت ألمس ذلك شخصياً خاصة بعد إصداري عام 2002م لكتاب بعنوان "الإعلام القديم والإعلام الجديد، هل الصحافة المطبوعة في طريقها للانقراض؟". ومع الإنفتاح والعولمة وتحسن خدمة الانترنت في السعودية، ثم ظهور شبكات التواصل الاجتماعي أفاقت تلك المؤسسات الصحفية على حقيقة أن الوحش قد تحول بالفعل إلى مارد ضخم التهم معظم مصادر دخلهم واستحوذ على الجيل الجديد من قرائهم.


المفاجأة أنه بعد كل ذلك استمر الاصرار بأن مستقبل الصحافة لازال مشرقاً وتزايدت حدة الهجوم على كل من يقول بخلاف ذلك. وربما يذكر الأستاذ المالك أنه تحدث في ندوة بجامعة الملك عبد العزيز قبل قرابة 7 سنوات فقط ذكر فيها أنه لا يؤمن بخطر الصحافة الرقمية على الصحافة المطبوعة، ووصف آخر للتطورات الرقمية بأنها مجرد وهم وفقاعة ستزول سريعا ولا خشية منها، مستشهدا في ذلك بأن مؤسسته الصحفية وزعت في الأعوام الماضية أرباحاً على مساهميها تفوق ما وزعته البنوك.
سأكتفي بهذا القدر بتعريفي بالمشكلة، مذكراً هنا بأن اهم مسؤولية للقيادات الإعلامية هي امتلاك الرؤية والتفكير الاستراتيجي الخاص بالصناعة التي يعملون بها.
ثانياً، المغالطات غير المتوقعة في مقال الأستاذ المالك:
- يقول الأستاذ المالك "لا أفهم أبداً أن يدلي وزير إعلام سابق بآراء انفعالية وبأفكار لا تلامس المشكلة ولا تشخص الحل وكأنه مغيب تماماً عن تلك المشكلة". ليسمح لي أستاذي العزيز خالد المالك بالقول أن مقاله نفسه لم يخل من الانفعال، أما وصف صراحة وواقعية معالي الدكتور خوجة بالقول بأنه "مغيب"، ففي اعتقادي أن الغياب الحقيقي يتمثل في تجاهل أو عدم رؤية الخطر الذي ظل ينهش في المؤسسات الإعلامية لقرابة 25 سنة (ربع قرن) دون اتخاذ أي خطوات جادة رغم وضوح الصورة وتوفر كل الظروف الملائمة بما فيها السيولة المالية الفائضة بشكل ضخم.
 
- كلام الوزير خوجة هذا ليس جديداً بل أنه قاله في لقاءات سابقة عام 2012 ولا أذكر حينها أنه أزعج الأستاذ المالك وقام بالرد أو التعليق عليه.
 
- كلمة "الشحاذة" استفزت كثيراً الاستاذ المالك لدرجة بدت واضحة في تكراره لها في ثنايا مقاله، ومن يعرف معالي الوزير خوجة ورقيه وسمو خلقه يدرك تماماً أنه لم يقصد أي إساءه، وفي اعتقادي أن كونه شاعراً وأديباً ربما ذهب به للتعريف اللغوي للتسول وهو "طلب المال بداعي الحاجة، دون تقديم مقابل لذلك".. وحقيقة الأمر فإن الصحف المطبوعة بوضعها الحالي لم يعد فعلاً لديها ما تقدمه.
 
 
- تحدث الأستاذ المالك عن "وجاهة طلب المؤسسات الصحفية دعمها لتتحول اصداراتها من صحافة ورقية إلى رقمية"! وحقيقة الأمر هو أن الأستاذ المالك يعلم جيداً أن طلب المؤسسات الصحفية للدعم لم يكن يوماً بغرض التحول الرقمي، بل أن تلك المؤسسات هي من رفضت الدعم مراراً وطالبت بأن يكون غير مشروط، ولو تم دعم تلك المؤسسات بعشرات الملايين فإنها سوف تنفقها على الرواتب والديون والحبر والورق، دون أي تغيير أو تطوير.
 
- مغالطة أخرى مذهلة في مقال الأستاذ المالك تتمثل في اسهابه في الحديث عن الصحافة العالمية مثل نيورك تايمز وعن دعم الحكومات الغربية الكبير لوسائلهم الإعلامية خلال الجائحة. وهذه المغالطة هي الأقسى بحق، فتلك الصحف التي ذكرها ومنها نيورك تايمز واجهت الخطر بمهنية وشجاعة منذ البداية، أي منذ التسعينات، واستمرت في التطوير وبناء الكفاءات البشرية إلى آخر لحظة، دون أن تلجأ يومياً لسياسة الإنكار ومقاومة التغيير ومحاربته بكل الوسائل، وتدليلاً على ذلك فإن التالي هو عبارة قالها عام 2000م "مارك سمتون" الرئيس التنفيذي لشركة نيويورك تايمز يقول فيها: "إن خطط الصحيفة هي التحول الجذري إلى نشاط لا يعتمد على الحبر والورق، وقد تمكنت الصحيفة بذلك من حماية نفسها مالياً بسيرها في الاتجاه الصحيح". واليوم تمكنت هذه الصحيفة من الاقتراب من هدفها بتحقيق عشرة ملايين اشتراك رقمي، في حين أنها تمكنت أيضاً من تخفيف حدة انهيار أرقام توزيع نسختها الورقية عبر المحتوى الأصلي وخدمة الترويج الذكي له في الموقع الإلكتروني.
 
 
 
- اعترض الأستاذ المالك على قول معالي الوزير بأن الصحف الورقية تتوقف عن الصدور في أمريكا وأوروبا والعالم وطالبه بدليل وبرهان على ذلك. وأنا هنا أؤكد بالأرقام ما قاله معالي الوزير، فخلال الثلاث عقود الماضية اغلقت في الولايات المتحدة أكثر من 300 صحيفة يومية، وانخفض توزيع الصحف بنسبة 35%، وانخفض عدد الممارسين لمهنة الصحافة المطبوعة بنسبة 40%، كما أنخفض دخل الصحف إلى المستوى الذي كان عليه عام 1950م، أي قبل حوالي 70 سنة.
 
 
- صحيح أنه لازال هناك صحف مطبوعة تصدر في الغرب ومنها كما ذكر الأستاذ المالك الوول ستريت جورنال ونيويورك تايمز وغيرها. غير أن جميع هذه الصحف أمنت نفسها رقمياً بشكل يجعلها لا تعتمد كلياً على نسختها الورقية التي تنخفض أرقام توزيعها بشكل متواصل. مسؤولي هذه الصحف ينتظروا فقط وصول ذلك الانخفاض إلى نقطة الخسائر لاطلاق رصاصة الرحمة عليها والإعتماد كلياً على المنتجات الرقمية.. فهل ينطبق هذا الأمر على صحفنا المطبوعة التي صرح المدير العام للشركة الوطنية للتوزيع بأن نسخها الموزعة مجتمعة لا يزيد عن 130 ألف نسخة، يباع منها أقل من 30 ألف نسخة لجميع الصحف! هذا في الواقع هو تعريفي لكلمة "موت الصحافة المطبوعة"، فإذا كانت تكلفة شراء المطبعة فقط تصل إلى أكثر من 150 مليون ريال خلافاً للمصاريف الأخرى الثابتة، فهل من المجدي منطقاً وعقلاً الاستمرار في تحمل كل هذه الخسائر خاصة مع انهيار دخل الاعلانات؟
 
- لقد اسشهد الاستاذ المالك كثيراً بأرقام الصحافة الغربية وذلك لاثبات أحقية صحفنا المطبوعة بالدعم، فهل يمكن لأستاذنا القدير من باب الشفافية رفع السرية عن الأرقام الحقيقية لمبيعات الصحف، بدون طبعاً النسخ المجانية وغير الموزعة؟ هذا الرقم مهم لمعرفة جدوى الدعم، فليس من المنطق مثلاً دعم صحيفة بمبلغ خمسة أو عشرة ملايين ريال وهي لا تبيع سوى ألفين أو ثلاثة آلاف نسخة.
 
 
- اتفق مع الأستاذ المالك بأن هناك اليوم مجهودات تبذل في المؤسسات الصحفية نحو التطوير الرقمي، ومنها على سبيل المثال التطوير الأخير الذي تم في صحيفة عكاظ والذي يعد مبشراً ويدعو للتفاؤل، ولكني لا أعرف حقيقة هل يصاحب تلك المجهودات تأسيس "نموذج دخل" جيد يضمن لها الاستدامة والتطوير المستمر؟ آمل ذلك حقاً.
 
- تحاول بعض المؤسسات الصحفية اليوم التحجج بأعذار مثل اختلاف السقف المتاح لهم مقارنة بالوسائل الرقمية أو في طبيعة تكوين تلك المؤسسات وكونها تحد من قدرتهم على الحركة. والحقيقة أن هذه الأعذار غير مقنعة بدليل التفاوت الكبير في آداء رؤساء التحرير وقدرة بعضهم على التكييف وتطويع المعلومة ورفع السقف أو تجاوزه بحكمة وذكاء، وهذا في الواقع هو من صلب مسؤوليات رئيس التحرير.
ثالثاً: الحل المقترح:


كما ذكر الأستاذ المالك فإن المؤسسات الصحفية هي مصنع يقدم منتجات ورقية وأخرى رقمية، وفي رأيي ان المنتجات الورقية أصبحت مكلفة جدا مالياً ومردودها الإعلامي ضعيف للغاية، وهي بالتالي فعلياً جزء من الماضي والتعامل معها ينبغي أن يتم وفق هذا الأساس. أما المنتج الرقمي فهو المستقبل الحقيقي. أنا مع الدعم المشروط الموجه فقط للتطوير الرقمي، أما الورقي فيترك للسوق لتحديد بقاءه أو فناءه. وشروط الدعم يجب أن تتضمن إعادة توزيع المصاريف بين المنتجين، ووجود جهة تعمل على التقييم المستمر لآداء تلك المؤسسات. وقد سبق طرح فكرة مساعدة الصحف عبر دعمهم بالتعاقد مع إحدى أفضل شركات التطوير الرقمي العالمية لتقوم بتقديم دعم فني لهم بأعلى المعايير العالمية في حين يترك للمؤسسات الصحفية مجال المنافسة بالمحتوى الجيد، ومن ثم لا يكون بعد ذلك سوى خيار النجاح أو الإغلاق.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه