2015-10-10 

مصر وروسيا.. صعود وهبوط واستقرار

نبيل عمرو

عند منتصف الليل، حطت بي الطائرة الممتلئة عن آخرها بالركاب.. في مطار القاهرة الدولي، الذي جدده وأضاف إليه مرشح الرئاسة الذي نافس مرسي في الانتخابات بعد ثورة يناير، الفريق أحمد شفيق، الذي سيظل وضعه ملتبسا بين النجاح والفشل إلى الأبد. لم أنقطع عن القاهرة منذ أول زيارة لها في عام 1970، ولقد زرتها وأقمت فيها بصورة يمكن وصفها بالنموذجية؛ قدمت إليها سائحا، ثم موظفا، ثم زائرا رسميا، ثم سفيرا لبلدي لديها. الزيارة الأخيرة جاءت وقد بلغ بي القلق على مصر حد الهلع. كانت زيارة بعد حدثين فيهما موت كثير؛ مذبحة سيناء التي راح ضحيتها كوكبة من خير أجناد الأرض، ومقتلة التدافع على أبواب استاد الدفاع الجوي في مشهد فوضى وموت يثير أكثر الانفعالات سوداوية، ويفتح الأبواب لهواجس مرعبة. إلا أن سحر مصر الذي لا يعرفه جيدا خصومها، محا من داخلي القلق والخوف، فاكتظاظ الطائرة بالركاب ومعظمهم غير مصريين، عنى لي أن الناس لا تُقبل بهذه الكثافة على مكان مرعب، ثم ازدحام المطار بالقادمين والمغادرين، وليس أخيرا اكتظاظ الطرق الطويلة والعريضة بمئات آلاف السيارات، وليس إلا في القاهرة نرى زحمة سير حتى أذان الفجر. قوة الحياة التي اندمجت فيها، ولّدت فيّ يقينا بأن هذا البلد أفلت من المصائر التي يُخطط لها من قبل «الشركة المساهمة غير المحدودة لتخريب مصر»، وأنه تجاوز الخطر، وأن ما يجري ليس أكثر من تحرشات هدفها توجيه رسالة لأهل مصر وحلفائهم.. بأن الأمور فيها ليست على ما يرام. وجدت في القاهرة، وأنا ما زلت فيها حتى كتابة هذه المقالة، جدلا واسعا وحادا حول أمور عدة؛ أولها.. إلى أي حد وصل التقصير في الإجراءات حيال ما حدث في سيناء والقاهرة؟ ثم.. ماذا تعني زيارة فلاديمير بوتين لمصر، وإلى أي مدى يراهن عليها؟ وبنفس القدر كان الجدل مشتعلا حول الانتخابات البرلمانية، التي وصل فيها عدد المرشحين حتى اللحظة إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثمانية وثلاثين من جميع المحافظات. والجدل الشعبي مهما كان حادا، يظل مؤشرا موثوقا على قوة الحياة وحرارة التوق الجمعي للاستقرار والنمو وتجاوز المحن العميقة والعابرة. ولأنني عملت سفيرا لبلدي في العاصمتين موسكو والقاهرة، مما وفر لي معرفة معقولة بكيفية ومؤثرات صناعة السياسة في البلدين، فقد مر في خاطري وعلى نحو بديهي، ذلك المصطلح الذي يتردد كثيرا حين تتطابق أحداث ولو بصورة عامة مع مثلها في زمن آخر، وهو: «كأن التاريخ يعيد نفسه» في مسار العلاقة بين البلدين. فمنذ خمسينات القرن الماضي حين أسس عبد الناصر العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، بعد أن يئس من الحصول على علاقة متوازنة مع القطب الآخر أميركا، وفي زمن الانتفاضة المصرية على السوفيات انسجاما مع يقين السادات بأن تسعة وتسعين في المائة من أوراق الحل مع إسرائيل هي بيد أميركا، ثم عودة العلاقة في ظل السياسة السوفياتية الجديدة التي قامت على توازن المصالح بديلا عن توازن القوى.. وإلى عهد السيسي الذي يعد بوضع جديد.. جرت في نهري النيل وموسكو مياه كثيرة، ووقعت على ضفافهما أحداث وتغيرات جذرية، فلم تعد مصر هي الجمهورية العربية المتحدة، ولم يعد الاتحاد السوفياتي موجودا، وشاءت الأقدار أن يقود البلدين رجلان جاءا من قلب المؤسسة الاستخباراتية الحساسة، التي يتعين على من يشغل أهم وأرفع المواقع فيها أن يكون صاحب رؤية استراتيجية وليس مجرد رئيس تسوية أو أمر واقع. وبوسعنا الاستنتاج والعلاقة الجديدة لا تزال في بداياتها، أنها علاقة وإن كانت تبدو اضطرارية - وهكذا هي العلاقات أساسا - إلا أن فيها مقومات كافية لأن تنمو وتستقر، فهي ليست تماما كما كان الأمر عليه في العهد الناصري مع موسكو، حيث خذلان العام 1967، إلى جانب فشل الاعتماد التسليحي على موسكو، دون تجاهل الجانب التنموي الذي نجح في مجال وأخفق في مجالات أخرى.. إنها الآن علاقة غير عسكرية في الأساس، دون نفي هذا البعد المحدد فيها.. علاقة تتميز برجحان كفة الاقتصاد والتنمية على أي أمر آخر، وتحتفظ مصر فيها بحرية حركة في تحديد المواقف السياسية والخيارات، مع اتفاق تام بين الجانبين على تحييد الاختلاف في كثير من القضايا عن مجرى ومنحى العلاقة الجديدة، ولعل ذلك هو الجديد فعلا. إن تأسيس علاقة بهذه القوة بين البلدين في هذا الوقت بالذات، يؤكد أول وأعمق ما يؤكد اتساع مساحة استقلال القرار في مصر، وكلنا يعرف كم كانت هذه المساحة ضيقة وحذرة وحرجة في أوقات أخرى. لهذا.. ونظرا لاتفاق الجانبين على تحييد الاختلاف وعدم جعله شرخا، لاستمرار ونمو العلاقة، فلا بد أن تُهيئ فرص استقرار ورسوخ لها، تغذيه على الدوام مصلحة الطرفين واعتناقهما مبدأ توازن المصالح قبل توازن القوى بمفهومه التقليدي. *من جريدة الشرق الأوسط

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه