واضح ما تريده إيران في سورية والعراق مهما تطلّب من تحالفات عابرة أو أدوات مفتعلة في سبيل النفوذ الإقليمي والشراكات الاستراتيجية. طهران اليوم تتصدّر الأولويات الأميركية تماماً كما سعت وهندست، وهي تمكنت من إحداث اهتزازات في العلاقات الأميركية مع الحلفاء التقليديين لواشنطن وباتت البديل الميداني عنهم في الحرب الأميركية على «داعش». الغامض هو ما يريده رجب طيب أردوغان الذي يبدو اليوم انه يزاحم طهران «داعشياً» بانضمام تركيا إلى «التحالف الدولي» الذي لطهران فيه عضوية فخرية عن طريق واشنطن، ويبدو أيضاً أنه ينافس الكرد «داعشياً» بعدما اتخذت واشنطن منهم حليفاً ميدانياً في العراق وسورية في الحرب على «داعش». فالرئيس التركي اعتمر أكثر من قبعة وهو يصيغ أدواره الإقليمية وخلّف وراءه عداوات واتهامات شملت تهمة المشاركة في صنع «الداعشية» – وهي تهمة موجّهة أيضاً إلى إيران وإلى بعض الدول الخليجية وكذلك إلى النظام السوري وبتعاون وثيق بينه وبين رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي. فـ «داعش» كوكتيل رهيب من استخبارات عالمية وإقليمية للولايات المتحدة يد فيه كما لإسرائيل. وهذا الـ «داعش» الملثّم أداة فاعلة في التنظيف العرقي والطائفي الذي يبدو ضرورياً لتقسيم المنطقة العربية بما هو في مصلحة كل الأطراف سوى المصلحة العربية. وهنا تربض القيادات العربية بين الوضوح الإيراني والغموض التركي والارتياح الإسرائيلي الى التشرذم العربي، تتبعثر مذهولة بانسياق. مصر تراقب تركيا من منظار «الإخوان المسلمين». مصر ضرورية لوزن عربي في موازين القوى الإقليمية وتحتاج بالتأكيد إلى تعزيز الدعم الخليجي لها، إنما على مصر أن تبادر إلى طروحات جديدة عملية وبعيدة المدى. فالعراق تطالب به طهران، وسورية تساوم عليها أنقرة. والولايات المتحدة تبدو جاهزة لتوزيع الأدوار بذريعة أولوية سحق «داعش». وتبدو واشنطن أيضاً أكثر ثقة بالأطراف الإيرانية والتركية والكردية والإسرائيلية مما هي بأي طرف عربي كشريك في الحرب التي تُشن في عقر الدار العربي وبدماء عربية وبخريطة تقسيم تفيد الأقطاب الإيرانية والتركية والإسرائيلية في موازين القوى الإقليمية. سورياً أولاً. الجديد هو التفاهم الأميركي – التركي على مستوى أوباما وأردوغان، بما أدى إلى مباركة فكرة «المناطق العازلة» أو «الجزر الآمنة» في شمال سورية، وتفعيل قاعدة «انجرليك»، ودخول تركيا طرفاً مباشراً في التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد «داعش»، والشراكة في اختيار المعارضة السورية المؤهلة للتدريب على يد الأميركيين لتسليمها المناطق الآمنة. في مسألة تعريف المقاتلين المقبولين من واشنطن، ملفت أن البنتاغون درّب فقط 60 من المقاتلين السوريين وذلك بسبب شروط استبعاد المقاتلين الذين يرفضون التعهد بعدم محاربة قوات النظام والاكتفاء بالقتال ضد «داعش» حصراً. واشنطن وضعت أسس التدقيق الصارم الضرورية كي لا ترتكب سهواً خطأ تدريب عناصر إرهابية من «داعش» أو غيرها. إنما إصرار البنتاغون على توقيع المقاتلين تعهداً مكتوباً بعدم القتال ضد النظام أثار التساؤلات لدى أقطاب داخل المعارضة السورية المعتدلة التي لا تريد أن تُكلَّف بمهمة سحق «داعش» وإعفاء النظام بما يؤدي إلى تعزيز النظام على حساب المعارضة. أنقرة وواشنطن ستنسقان استخبارياً للاتفاق على تنفيذ خطة تدريب وتسليح 5 آلاف مقاتل التي أقرها «البنتاغون». هذا يعني أن من ضمن التفاهمات الأميركية – التركية صوغ معارضة سورية بديلة قادرة ميدانياً أن تزيد الثقوب في النظام، مهامها الأولى سحق «داعش»، لا غبار إرهابياً عليها. الفكرة إذن تقوم على مبدأ «عفا الله عما مضى» إن كان تهماً باطلة أو استراتيجية معتمدة نصبت تركيا طرفاً أساسياً في دعم «داعش» وتمكينه في الداخل السوري لغايات ومصالح تركية. والفكرة هي أن لأنقرة دوراً أساسياً في تحديد هوية وتدريب وتسليح جماعات المعارضة السورية التي لها أن تتسلم سلطة «المنطقة الآمنة» المفترض إنشاؤها. لعل في ذهن واشنطن أن يكون لطرف أو أطراف عربية دور في هذه الصياغة، إنما حتى الآن، تبدو الدول العربية التي كانت فاعلة جداً في سورية جاهزة لحلول يقدمها الآخرون طالما تؤدي إلى إقصاء بشار الأسد عن السلطة حتى لو بقي النظام. من جهة، لا خطأ في القبول بحلول تقدمها وتنفذها الشراكة الأميركية – التركية سيما في إطار التحالف الدولي العربي ضد «داعش». إنما من ناحية أخرى، أن التغيب أو الغياب العربي عن رسم المستقبل السوري يترك الخريطة في أيدي تركيا وإيران معاً، وهذا أمر يكاد يكون استثماراً في صعود الوزن التركي والإيراني وإضعاف الوزن العربي في موازين القوى الإقليمية. تركيا لها مواقف مختلفة عن إيران نحو سورية. طهران حليف للنظام وللرئيس السوري، تدخل ميدانياً حرباً في سورية عبر «الحرس الثوري» و «حزب الله»، تتمسك بإصرار بنفوذها ومرورها عبر الأراضي السورية إلى حليفها في لبنان «حزب الله» ولن تتخلى عن ذلك سوى في إطار صفقة ضخمة تضمن لها الأسس الرئيسية في مصالحها الاستراتيجية. طهران قدّمت نفسها إلى واشنطن كحليف ميداني يعتمد عليه لسحق «داعش» في سورية كما في العراق. شاركت جذرياً في تحويل المسألة السورية إلى «حرب على الإرهاب» ضاربة بعرض الحائط أية مطالب لتنحي بشار الأسد أو تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأمور من تدمير وكارثة لسورية. تحالفت ميدانياً مع الأكراد في العراق في الحرب على «داعش» وقدمت لهم السلاح والذخيرة، كما شجعتهم في سورية على التحالف مع النظام والعمل سوية لسحق «داعش». هذه ذخيرة مهمة قدمتها طهران إلى واشنطن وهي تسوّق نفسها على أنها الحليف الميداني الأكثر حنكة وتخطيطاً واستفادة من سحق «داعش». واشنطن تلقَّت العرض وقررت ألاّ ترى وألاّ تدقق في التهم الموجهة إلى طهران بأنها ساهمت جذرياً في صناعة «داعش» بالذات عبر حليفيها بشار الأسد ونوري المالكي. قررت واشنطن أن تتناسى ما قامت به طهران ودمشق أثناء الاحتلال الأميركي للعراق من تمرير لعناصر «القاعدة» – التي باتت «داعش» بحلة مختلفة – وأسفر عن قتل مئات الأميركيين. فالمصالح تأتي قبل المحاسبة سيما أن واشنطن قررت أن مصالحها الآن هي مع إيران وأن المحاسبة الوحيدة الضرورية هي محاسبة العرب على إرهاب 11/9. الكرد في المعادلة التركية – الإيرانية مسألة مهمة تستحق البحث المفصل، وهم في العلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة شركاء الأمس واليوم أيضاً. العلاقة بين الدول الخليجية والأكراد يجب أن تُراجع وأن تُصاغ بوعي تام إلى أن الكرد في العراق وسورية جزء من نسيج المنطقة. تركيا ترى في الكرد خطراً لأنها واثقة أن هدفهم هو إنشاء كردستان ممتدة من العراق إلى تركيا وكذلك سورية وربما أيضاً بعضاً من إيران. لكن حرب تركيا على الكرد ليست حرباً عربية، والشراكة العربية – الكردية كانت أجدى لو سارعت الدول العربية المعنية إلى مساعدة الأكراد في العراق في حربهم على «داعش» بدلاً من ترك المجال لطهران لملء الفراغ وتسديد الحاجة. هذا لا يعني الأكراد في سورية. إنما من المفيد العودة إلى دراسة الخيارات المتاحة الآن في العلاقة العربية – الكردية إزاء التطورات الجديدة بدلاً من الانسياق وراء دعم تركيا في حملتها السورية التي هي موجهة ضد «الكردستاني» بقدر ما هي ضد «داعش» لغايات تخصها. لعل تغييراً ما قد يحدث على المسار السوري على ضوء التناغم بين الولايات المتحدة وروسيا أثناء جلسة مجلس الأمن للاستماع إلى المقاربة الجديدة للمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا. المقاربة الجديدة وضعت محاربة الإرهاب في الطليعة عند البحث عن الحل السياسي ودعت إلى تشكيل «لجان عمل مشتركة» بين أطراف النزاع السوريين تعمل «بالتوازي» تجنباً لمعركة يهمها أولاً: محاربة الإرهاب أولاً كما يريد النظام أو البدء بتشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة، كما تريد المعارضة. دي ميستورا، ومعه مجلس الأمن، انتظر طويلاً بكلفة غالية على السوريين، إلى حين التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران. وأعطى مكافحة «داعش» الأولوية منذ أول تصريح له حول كوباني، وهو الآن يقحم رسمياً محاربة الإرهاب كجزء من المفاوضات حول مستقبل سورية، مبتعداً بذلك عن بيان جنيف كما وضعه كوفي أنان وكما أوضح الأخضر الإبراهيمي. بين دي ميستورا والإبراهيمي وأنان قاسم مشترك يتعلق بضرورة أن يكون لطهران دور رئيسي عند البحث عن تسوية في سورية، وهذا أمر رفضته دول عربية باعتباره، من وجهة نظرها، شرعنة للدور الإيراني في سورية. وبعض أعضاء مجلس الأمن، مثل إسبانيا ونيوزيلاند، دعا إلى انخراط الدول الإقليمية الرئيسية في حل الأزمة السورية مشيرين إلى تركيا وإيران والسعودية أثناء الجلسة المغلقة لمجلس الأمن. مصر تريد أن كون متواجدة في مثل هذا الانخراط. طهران تعرف ماذا تريد وتنفذ ما خططت له. أنقرة تمارس الغموض وتلعب أوراقها. على العواصم العربية أن ترفض الاستلقاء والانسياق وأن تشارك فعلياً في صياغة الخيارات لتقرير مصيرها.