هناك تنظيمات سلفية جهادية مثل تنظيم الدولة (داعش) تتبنى نهج التكفير، وتعلن ذلك جهاراً نهاراً في حق المخالفين لها، سنة وشيعة. هذا بات معروفاً. ما ليس معروفاً تماماً هو ادعاء إيران أنها تحارب هؤلاء التكفيريين، ومعها يردد الأمين العام لـ «حزب الله» اللبناني، حسن نصر الله، أن حزبه منخرط في الحرب ذاتها. السؤال: ماذا لو أن الذي يدعي محاربة التكفيريين هو تكفيري أيضاً، وربما أشد وأغلظ في نهجه التكفيري، ويدير الحرب بآلية التفكير ذاتها؟ إيران وأذرعها، مثل نصر الله، تريد إقناع الرأي العام بعكس ذلك، لكن كل المعطيات المتوافرة تؤكد أنه إلى جانب تنظيمات السلفية الجهادية وغيرها من التنظيمات السنية، هناك في المقابل في ساحات الصراع ذاتها، مثل العراق وسورية ولبنان، تنظيمات شيعية، وكل منها يواجه الآخر من منطلقات مذهبية. ومن المعطيات أيضاً أن الدولة الإيرانية هي التي تتبنى الميليشيات الشيعية رسمياً، توجهها عقائدياً، وتديرها سياسياً، وتمولها مالياً، وتمدها وتدربها عسكرياً. وإذا كانت المذهبية والاصطفاف المذهبي الناجم عنها، إنما يعبران عن رؤية تكفيرية لدى جانب في الصراع (التنظيمات السنية)، فما الذي يمنع أن تعبر عن الشيء ذاته لدى الجانب الآخر (التنظيمات الشيعية)؟ المفترض أن الإجابة عن مثل هذا السؤال واضحة ولا تحتاج إلى كبير عناء لمعرفتها، لكن كما ذكرت في مقالة الأسبوع الماضي، يعتمد الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله، مثل راعيته إيران، على آلية الكذب والتمويه لإدارة الصراع مع الطرف الآخر، وإلا من الواضح أن من يدير الصراع مع طرف آخر من منطلق مذهبي هو شريك أصيل في منهج التكفير، وأنه منخرط في هذا الصراع على أساس هذا المنهج حصرياً، وهذا المعتقد التكفيري الذي يؤسس له. لنتذكر أن حزب الله حزب ديني على المذهب الإمامي الاثني عشري. هو كذلك في نظامه، وكوادره، وأهدافه، وقيادته ومرجعيته الدينية والسياسية، التي تتمثل في الولي الفقيه في إيران، الدولة التي تعتبر نفسها بنصوص دستورها المعتمد دولة الشيعة في المنطقة. يقول نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم في كتابه «حزب الله: المنهج.. التجربة.. المستقبل»، إنه «لا علاقة لموطن الولي الفقيه بسلطته، كما لا علاقة لموطن المرجع بمرجعيته...»، وفي هذا خلط واضح بين المرجعية الدينية التي يمكن أن تكون عابرة للحدود الجغرافية والزمانية، وبين المرجعية السياسية التي لم يعد من المقبول في هذا العصر أن تتجاوز حدودها الجغرافية، والزمانية كذلك. بناء على هذا الخلط، يقول قاسم إن «التزام حزب الله بولاية الفقيه... عمل في دائرة الإسلام وتطبيق أحكامه، وهو سلوك في إطار التوجهات والقواعد التي رسمها الولي الفقيه...» (ص 78)، وإن هذا الالتزام «منسجم مع.. قناعة حزب الله بسلامة منهج الدولة الإسلامية (الاثنا عشرية) في إيران» (ص 80). قبل نعيم قاسم وبعده، كثيراً ما أكد الأمين العام للحزب فخره «وحزبه» بالعمل تحت راية ولاية الفقيه، وبناء على صفته هذه، وعلى انتمائه ومرجعيته، ألا ينطلق «حزب الله» في حروبه وتحالفاته من نهج تكفيري؟ لنضع قاعدة يمكن الاتفاق على صلاحيتها كمعيار للقياس هنا، وهي أن كل تنظيم يتأسس على الانتماء لعقيدة أو مذهب ديني، وهدفه نشر هذه العقيدة أو إقامة حكم على أساس منها أو متعاطف معها، هو في الأخير تنظيم تكفيري. لنبدأ بالجانب النظري للمذهب الذي ينتمي إليه الحزب: إذا كانت قناعة الحزب بسلامة منهج الدولة «الإسلامية» في إيران تنطلق من فكرة ولاية الفقيه، وهي فكرة شيعية اثنا عشرية حصرياً، فمعنى ذلك أن المنهج الإسلامي للدول الأخرى ليس سليماً، أي منحرف عن المنهج الإسلامي. ألا ينطوي هذا على تكفير مستتر، في مقابل تكفير «داعش» المعلن والمباشر؟ يقول الشيخ كمال الحيدري، وهو خريج مدرسة قم الإيرانية، في إحدى محاضراته على «يوتيوب»، إنه «لا يوجد أحد من علماء الإمامية لم يحكم بكفر غير الشيعة.. بلا استثناء.. بلا استثناء». وهناك فرق في التكفير هنا بين فريقين -أو تيارين- وفق الحيدري: تيار «يحكم بكفر المخالفين ظاهراً وباطناً»، وآخر «يحكم بإسلامهم (المخالفين) ظاهراً، وبكفرهم باطناً. وما عدا ذلك، هناك إجماع على كفر المخالفين». ومؤدى هذا الكلام أن هناك من علماء ومرجعيات الشيعة من هو في منهجه التكفيري مثل «داعش»، أي يتبنى التكفير المعلن والمباشر لغير الشيعة. لكن هناك من يظهر الاعتراف بإسلام غير الشيعة وعدم كفرهم وهو يعتقد في باطنه عكس ذلك تماماً، وهو منهج الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويتبعها في ذلك «حزب الله». منشأ التكفير عند علماء الشيعة الاثني عشرية معروف عند الجميع، وهو -كما يقول الحيدري- «أن الإمامة أصل من أصول الدين، أو المذهب، أو ضرورة من ضرورات الدين والمذهب. وهذا لازمه التكفير». ومن ثم، فإن «المنهج التكفيري في مدرسة أهل البيت غير قابل للدفاع عنه إلا بتغيير المبدأ (أو الأصل)..». ثم يستشهد بعد ذلك بكلام لـ «صاحب الجواهر» محمد حسن النجفي، في (ج22، ص62)، وفق الحيدري، يقول فيه: «بل تواترت (النصوص عن المخالفين) بلعنهم وسبهم وشتمهم وكفرهم، وأنهم مجوس هذه الأمة (لاحظ أن بعض أهل السنة يعتبر الشيعة هم مجوس الأمة)، وأشر من النصارى، وأنجس من الكلاب». وما يؤكد أن كون الإمامة أصل من أصول الدين والمذهب ويقتضي بالضرورة تكفير مخالف هذا المعتقد، ما جاء في أحد أهم الكتب المرجعية للمذهب إلى وقتنا الحاضر، وهو كتاب «أصول الكافي» للمحدث الشهير محمد بن يعقوب الكليني (ت. 329هـ /941م ). أحد أبواب هذا الكتاب لافت بعنوانه وموح بدلالته، إذ هو بالنص: «من ادعى الإمامة وليس بأهل لها، ومن جحد الأئمة أو بعضهم، ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل». يورد الكليني في هذا الباب، كما في بقية الكتاب، روايات عدة تنتهي سلسلة رواتها في الغالب عند أحد الأئمة الاثني عشر. من هذه الروايات قول أبي عبدالله (الحسين بن علي): «من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر» (ج1، ص 420). وفي رواية أخرى: يقول أبو عبدالله: «من أشرك مع إمام إمامتُه من عند الله مَن ليست إمامتُه من عند الله، كان مشركاً بالله» (نفسه، ص 421). ثم ينقل عن أبي عبدالله أيضاً برواية أبي يعفر قوله: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة من الله ليست له، ومن جحد إماماً من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيباً» (ص 421). أما الإمام جعفر الصادق فيقول، وفق الكليني برواية محمد بن مسلم: «كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير، والله شانئ لأعماله...» (ص 423). اللافت في أحاديث الكافي عن الموضوع أمران: حرص الأئمة الشديد على الاحتفاظ بحقهم في الحكم، وأنه حق حصري أعطاه الله لهم دون غيرهم. وهو ما ينطوي على نظرية الحق الإلهي في الحكم، وهي نظرية سابقة على الإسلام، ولم تعرف في تاريخ الجزيرة العربية، وبالتالي تاريخ العرب وثقافتهم السياسية. من هنا نجد أن الاختلاف الذي حصل في السقيفة حول من يحق له خلافة النبي بعد وفاته كان يدور حول النسب، أو القرابة من النبي، أو السابقة في الإسلام. لم تظهر فكرة الإمامة كما تشير إليها أحاديث الكافي إلا بعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدول العباسية. ولأنها اعتبرت حقاً حصرياً، شبيهة بحصرية الحق الإلهي، أصبحت الإمامة عند الشيعة أصل من أصول الدين والمذهب. ونتيجة لذلك، وهذا هو الأمر الثاني، أصبح كل مخالف لهذا الأصل بالضرورة كافراً، كما قال الحيدري، وهذا تكفير شامل يمتد إلى جميع أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، بما في ذلك أهل المذهب الزيدي، الذي يجيز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ففي هذا، كما في حديث أبي عبدالله المشار إليه أعلاه، شرك بالله، لأنه «أشرك مع إمام إمامتُه من عند الله من ليست إمامتُه من عند الله». كيف يبدو الواقع «أو السلوك» السياسي لإيران و«حزب الله» أمام هذا التصور النظري لمسألة التكفير؟ في حالة إيران رأينا في مقالة سابقة (الأحد 5 أبريل 2015) أنها تطبق آلية التكفير من خلال نصوص دستورية وليس من خلال فتاوى، كما يفعل السلفيون. فعندما تحدد المادة 12 مذهب الدولة الرسمي بأنه الاثنا عشري، فمعنى ذلك أن المواطنين الذين لا ينتمون إلى هذا المذهب لا ينتمون أيضاً إلى هذه الدولة من الزاوية المذهبية، التي أصبحت ملزمة دستورياً. ثم إن حرمان هؤلاء وغيرهم ممن لا يؤمن بولاية الفقيه من حق الترشح لرئاسة الجمهورية في مادة دستورية أخرى (115)، فضلاً عن أنه يتعارض مع منطق الجمهورية وروحها، إلا أنه شكل من أشكال الإبعاد والإقصاء، وبالتالي حجب كامل لحق سياسي عن طبقة معينة من المواطنين على أساس مذهبي، أو أيديولوجي، وهذا هو تماماً معنى التكفير. فمعنى هذا المصطلح تحديداً، وفق صاحب «اللسان»، الحجب والتغطية، ولذلك يسمى المزارع كافراً لأنه يغطي البذور بالتربة، وما تفعله إيران أنها تغطي الحق السياسي لطبقة كبيرة من المواطنين، وتحجبه عنهم بذريعة دينية بالنسبة إلى غير المسلمين (تكفير طائفي)، ومذهبية بالنسبة إلى المسلمين الذين لا ينتمون لمذهب الدولة (تكفير مذهبي)، وذريعة سياسية بالنسبة إلى من ينتمون لمذهب الدولة لكن لا يؤمنون بولاية الفقيه. وبهذا يمثل نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية في زماننا التيار الذي يقر بإسلام المخالف في المذهب علناً، وبمواطنة المخالف في الدين علناً أيضاً، لكنه في الباطن يعتقد جازماً بكفرهما معاً، ولذلك لا بد من إبعادهما عن سلطات الدولة، وحرمانهما من حقوقهما السياسية. أين ينتظم «حزب الله» في هذا السياق؟ وما معنى ووظيفة كل مصطلح في ثلاثية «ولاية الفقيه- المقاومة- التكفير» في السياق ذاته؟ * نقلا عن "الحياة