هل أن القلق الخليجي والعربي من التقارب الأميركي - الإيراني مبرر؟ نعم، لأن واشنطن استهلكت أعواماً وهي تحاول وقف البرنامج النووي لكنها تكتفي الآن بإبطاء أو تأخير قدرة ايران على صنع سلاح نووي في وقت لاحق. وفي سبيل الحصول على هذا «الإبطاء» تجاهلت اميركا التدخلات الايرانية المباشرة وغير المباشرة في بلدان عربية، مدّعية أن إبعاد «الخطر الأكبر» (النووي) سيحجّم «الخطر الأصغر» (اختراق الدول والمجتمعات). هل عارضت الولايات المتحدة أو تعارض تلك التدخلات، وكيف؟ نعم، في حالٍ واحدة، عندما وقفت، كما هو متوقّع، الى جانب اسرائيل في حرب لبنان في تموز (يوليو) 2006 ثم في الحروب الاسرائيلية على غزّة خصوصاً في 2008 -2009. وعلى رغم انزعاج اميركا الشديد من الهجمات على جنودها في العراق، بتحريض وتدبير ايرانيين (مع النظام السوري)، إلا أنها تعايشت مع الخطر وانتهت الى منح ايران حق التدخل وقبلت بتقاسم النفوذ معها في العراق. وطوال هذا الوقت أحجمت واشنطن عن الاشارة الى التسليح الايراني للحوثيين في اليمن بذريعة أن تأكيده قد يلزمها بمواجهة لا تريدها، أو أنه سيشجع دولاً اقليمية على مواجهة لا تريدها أيضاً. وفي عام 2008 قام الاميركيون باستعراضات بحرية قبالة الشاطئ اللبناني لشدّ عصب الحكومة في صمودها أمام تهديدات «حزب الله» (وكيل النظامين الايراني والسوري)، لكنهم لم يثنوا الميليشيات عن اجتياح بيروت واستباحتها في أيار (مايو) من ذلك العام. هل هناك أجندة خفية اميركية يمكن أن تظهر بعد التوصّل الى اتفاق نووي؟ من يقولون نعم يستندون الى منظومة «مبادئ» يعتقدون أن اميركا لا تتخلّى عنها، ومن ذلك مثلاً أن اقامة علاقة تعاون وتنسيق بينها وبين النظام الايراني تتطلّب حدّاً أدنى من «الثقة» وهذه في رأيهم استحالة إلا اذا رضخت واشنطن كلياً لمفاهيم طهران وشروطها، لكنهم يستندون أيضاً الى ما تملكه واشنطن من معلومات موثّقة عن دور ايران في تغذية النمط الجديد من الإرهاب وتوظيفه في سياساتها التوسعية حتى أن معظم الأبحاث العسكرية بات يسجّل تماثلاً في المسارات والأساليب (مع فوارق ظرفية) بين «حزب الله» في لبنان وجماعة «أنصار الله» الحوثية في اليمن وميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق وصولاً الى تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش). لكن «المبادئ» مستبعدة لدى مَن يقولون أن لا أجندة «ايجابية» اميركية وفي نظرهم أن واشنطن جلست تفاوض طهران متعمدة غضّ النظر عن مغامراتها، فالكوارث الايرانية لا بد أن تراكم مصالح لاميركا، ولذلك يُلفتون الى أن الحال الارهابية المستشرسة تبلورت في ظل «تفاهم» ثنائي علني في العراق و»تفاهم» ضمني على إبقاء النظام في سورية، بل يعتبرون أن ايران استطاعت أن تقيم «علاقة ندّية» مع اميركا في تثبيت سياسة «استثمار الارهاب» مع ادّعاء «الشراكة» في محاربته. وعلى رغم ظهور أخطاء هذه الشراكة ومخاطرها في تكريت والأنبار فإن ايران تمكّنت من تمرير «شرعنة» ميليشياتها وضمان تمويلها من المال العام. هل تسعى الولايات المتحدة فعلاً الى اقامة «توازن» عربي - فارسي، أم الى ادارة الصراع؟ من جهة يبدو «التوازن» شعاراً ايجابياً، لكنه يفترض التوسّط بين الجانبين، مع فارق أن قوة ايران تشكّلت مدفوعةً بالعداء لـ «الشيطان الأكبر» وأن الولايات المتحدة سهرت على الدوام على ادامة قوة محدودة للعرب، حمايةً لاسرائيل وأمنها. وإذ يضيف البعض صفة «الخلاق» الى «التوازن» المنشود فإن هذا لا يذكّر إلا بشعار «الفوضى الخلاقة» التي لم تكن خلاقةً على الاطلاق بالنظر الى تداعيات الغزو الاميركي للعراق وإحداثه فراغاً استراتيجياً ملأته ايران على مسارين متوازيين: الأول بتفعيل برنامجها النووي، والآخر بإشعال الحرائق والصراعات الأهلية واستغلال الانقسامات السياسية وتزخيم جرعة العسكرة المذهبية للشيعة ما مكّنها من بناء نفوذ مباشر في العراق وسورية ولبنان وغير مباشر في البحرين وغزّة، ومن تعزيز اختراقها لليمن. كان واضحاً أن هذه التدخلات شكّلت تحدّياً لاميركا وتهديداً لمن تسميهم «حلفاءها» في المنطقة، وعندما سلّمت العراق الى ايران لم تفطن الى أي «توازن» وليس واضحاً، كذلك عندما سكتت على انتهاكات أتباع ايران في لبنان ثم على الاجرام الايراني في سورية، وعلى المغامرات العشوائية للحوثيين في اليمن حتى أنها لم تبالِ بسعيهم الى إفشال المرحلة الانتقالية وإسقاط الحكومة الشرعية. بل ان اميركا أحجمت عن دعم أي مواجهة لتمدّد ايران الذي أدّى، حيثما وُجدت، الى انهيار «الدولة» والمجتمعات لمصلحة ميليشيات تسعى الى الحلول محل المؤسسات بما فيها الجيوش الوطنية. اذا كانت «الثقة» غير واردة وغير واقعية بين اميركا وايران، فماذا عنها بين اميركا والعرب؟ لا ثقة طبعاً، على رغم اعتماد واتكال مزمنين على «الأخ الأكبر»، لكن لا خيارات اخرى في الواقع الراهن، مع بلوغ التهديدات الايرانية عتبة البيت الخليجي - العربي. هنا تكمن الصعوبة في محادثات كامب ديفيد، فثمة تغيير مطلوب في صيغة العلاقة وشروطها، لكنه تغيير مطلوب في الاتجاهين. فكما أن واشنطن تنتظر من الدول الخليجية، وبالتالي العربية، أن تكون «أكثر فاعلية في مقاربة الأزمات الاقليمية» وأكثر تركيزاً على معالجة ما يعتبره باراك اوباما «الخطر الأكبر» وهو «السياسات الداخلية»، لا بد من أن يتوقّع الخليجيون من اميركا أن تكون أكثر وضوحاً والتزاماً في احترام مفهوم «الأمن القومي» لحلفائها. وهناك الآن اختباران خطيران، أولهما حاسم في اليمن، والآخر في سورية. ما لم يلمس الخليجيون تفهّماً ودعماً بل انحيازاً اليهم في اليمن، حيث اضطروا للمجازفة بالذهاب الى خيار عسكري، فإنهم سيتيقنون بأن الولايات المتحدة تتحدّث عن «توازن» لا تستطيعه، وتصطنع «حياداً» واهياً لمواصلة ابتزازهم باستخدام الخطر الايراني. وما لم يتغيّر النهج الاميركي فلا الاتفاقات الدفاعية ستفيد، ولا الخطط المقترحة لنشر مظلة نووية. كان لافتاً في تصريحات أولى من نوعها لولي عهد أبو ظبي، العائد من زيارة لواشنطن تتعلّق بالتحضير للقاء كامب ديفيد، أنه دعا الى «إطار سياسي وعسكري وتنموي متقدّم من أجل عزة العرب ومكانتهم في المنطقة والعالم». تختزل هذه الدعوة أفكاراً كثيرة طرحها مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية لإخراج العالم العربي من جموده وتراجعه، واذا كان فيها شيء من التناغم مع دعوات اوباما الى تفعيل القدرات العربية الموجودة فعلياً على المستويين الاقليمي والداخلي، فإن فيها أيضاً إشارة الى أن اميركا وأي قوى دولية اخرى لن تساعد العرب إلا بمقدار استعدادهم لمساعدة أنفسهم. لا شك أن «الإطار» الذي عناه الشيخ محمد بن زايد يحتاج الى تحديد، فهو أكثر من مجرد فكرة عامة، أو عنوان لخطةٍ تجمع أطراً متوافرة حالياً بغية تركيز أهدافها وتطوير ادائها. ولعله أشار الى هدفين صارا متلازمين: أولهما «خيارنا الوحيد هو الانتصار في امتحان اليمن لمصلحة منبع العروبة (السعودية والخليج) والمنطقة (العربية)»، شارحاً أن انقاذ اليمن لا يقتصر على الجانب العسكري والأمني بل يمتد الى الجوانب التنموية والاقتصادية والانسانية والاجتماعية. والثاني يكمن في «طبيعة التحديات والمخاطر التي تستوجب «اليقظة المستمرة والجاهزية... لردع كل من يضمر الشر لمنطقتنا العربية». كما يحتاج هذا «الاطار» الى توضيح جيو-سياسيته وما اذا كان معنياً بالتحالف العربي لـ «عاصفة الحزم»، أو اذا كان مشروع القوة العربية المشتركة يندرج فيه، فضلاً عن مدى تداخل الخليجي والعربي فيه. *نقلاً عن "الحياة"