بينما تقود السعودية حربًا تتاخم حدودها، حربًا تؤرق أي دولة في العالم، تواصل المملكة المستقرة ثباتها وتواصل استراتيجيتها في نقل الحكم إلى الجيل الثاني، بل والثالث. لا يهم ماذا يحدث خارج حدودها حتى ولو بلغت تلك الاضطرابات حروبًا وليس قلاقل فقط، فالجبهة الداخلية السعودية تثبت يومًا تلو آخر أنها أكثر ما تعوّل عليه الدولة؛ جبهة تتناغم في إيقاع متوازن كلما استدعت الحاجة لأن تتماسك بشكل أكثر قوة. هكذا كانت قرارات الدولة السعودية على مر تاريخها، وكذلك كانت القرارات التي أصدرها أمس خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وكان على رأسها تعيين الأمير محمد بن نايف وليًا للعهد، والأمير محمد بن سلمان وليًا لولي العهد. لم تكن قرارات فجر أمس قرارات عادية أو روتينية، بل من نوعية القرارات التي لا تصدر إلا مرة كل بضعة عقود. يعيد الملك هيكلة الدولة وينظم عمل الحكومة. يعفي ولي العهد بناءً على طلبه. يعين ولي عهد وولي ولي عهد، ناهيك عن جملة من التعيينات والإعفاءات الوزارية، كل هذا والمملكة تقود تحالفًا وتحارب لإعادة الأمن والاستقرار في بلد جار، وخصمها يشاغلها ويحاربها على الحدود، وجنودها مرابطون يحرسون بوابتها الجنوبية. هذه المملكة لديها من الثقة والقوة والاستقرار ما يغري خصومها للغوص ومعرفة أسرار القدرة العجيبة التي تتجدد بها الدولة كلما ظنوا أنها هرمت وباتت متأخرة عن السير بالركب، فإذ بها تفاجئهم مرة تلو أخرى كعادتها في المواقف الكبرى. قلت هنا سابقًا إن الاستقرار صناعة سعودية، لذلك فإنه رغم كل هذه القرارات التاريخية على قوتها وأهميتها، فإن الشارع السعودي غير متفاجئ بقدرة مملكته على استيعاب كل المتغيرات مهما كبرت ومهما تخيل البعض أنها قد تكون مستحيلة، المشكلة الأساسية في الانطباعات الخاطئة لدى مراكز بحوث وخبراء ومختصين غربيين يعتقدون أنهم يعرفون السعودية أكثر من أبنائها، ويبنون تحليلاتهم وهم بعيدون عشرات الآلاف من الأميال، كما في قول صحافي غربي أمس إن سبب التغييرات في السعودية هو الموقف من اليمن! مثل هذه الرؤى غير المنطقية تتكرر بصيغ مختلفة هنا وهناك، أحيانًا أجد لهم العذر في عدم قناعتهم بالحقائق وإصرارهم على المضي في انطباعاتهم هذه، فهم لا يتخيلون أن دولة تحيط بها الحرائق من كل صوب وتتخذ قرارات غير مسبوقة دون أن تكون لها أي تأثيرات سلبية. في أنحاء متفرقة من العالم العربي اشتعلت الحرائق، وكان وقودها المئات وأحيانًا الآلاف، طلبًا لتمكين الشباب من بلادهم، وفي النهاية وعلى الرغم من كل هذه الكلفة الغالية الثمن لم يتحقق الهدف، أما في المملكة العربية السعودية فيُمكّن الشباب في فترة قصيرة وبنسب عالية، دون أن تدفع البلاد ثمنًا لهذا التمكين. إنها مملكة التطور الطبيعي وليست مملكة قائمة على الهزات. قي أن نتذكر رجلين يستحقان الشكر والثناء على ما قدماه طوال فترة عملهما بالدولة، الأمير مقرن بن عبد العزيز بعد طلبه الإعفاء من ولاية العهد، وهو رجل دولة خدم بلاده من الميدان طيارًا، مرورًا بالعديد من المناصب التي أثبت قدرته على التفوق بها، وصولاً للرجل الثاني في البلاد، والثاني الأمير سعود الفيصل، الذي لم يتفق السعوديون على وزير كما اتفقوا عليه، ولم يذهب جهده وصحته ووقته طوال أربعين عامًا هباءً منثورًا، ويكفيه أن مواطنيه أحبوه وزيرًا وتابعوه سنين وحزنوا عليه وهو يترجل من على جواده، وهذه لعمري لا يحظى بها وزير غير سعود. سألني أمس مراسل وكالة الصحافة الفرنسية عن مغزى التغييرات التي قام بها العاهل السعودي، فذكرت أن قرارات الملك سلمان ضبطت إيقاع الدولة السعودية لعقود قادمة، فالمملكة تؤكد من جديد أنها متجددة ولا تشيخ أبدًا، ولعل ما يغبطها عليه الآخرون أن تجدد دمائها يأتي بينما دوران ترسانتها لا يتوقف. نعم المملكة المتجددة لا تشيخ إطلاقًا. *نقللاً عن "الشرق الأوسط"