يتردد مسمى المنظمات الدولية غير الحكومية عالميا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقيام نظام عالمي جديد وقد استُخدم مصطلح "المنظمات غير الحكومية" للمرة الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما أطلقته الأمم المتحدة على المنظمات التي ساعدت في الشفاء والتعافي من ويلات الحرب والاسهام في مداواة الملايين من النازحين، والأيتام، والعاطلين عن العمل، بيد أن مفهوم تنظيم العمل الأهلي في قضايا معيّنة يرجع إلى تاريخ أبعد من ذلك بكثير. حيث يشير متخصصون إلى أن أول منظمة غير حكومية كانت المنظمة الدولية لمكافحة العبودية، التي أنشئت عام 1839. وفي الوقت الراهن، تعترف الأمم المتحدة بنحو 40 ألف منظمة غير حكومية عالمية الطابع والأنشطة، مع العلم أن هناك ملايين أخرى من هذه المنظمات ولكنها محلية تعمل داخل دول العالم كافة. ولعل التطور الأبرز في مسيرة هذا الكم الهائل من المنظمات الدولية هو تزايد اعداد المنظمات الممولة من جانب الدول الكبرى، وتحولها إلى أدوات فاعلة لتنفيذ السياسة الخارجية لهذه الدول، ومن ثم توظيفها لخدمة أهداف سياسية، بعد أن كان ظهورها التاريخي مرتبطا بتحقيق أهداف أخرى بعضها ديني والآخر انساني. وللتعرف على الروابط بين هذه المنظمات والسياسات الخارجية لبعض القوى الكبرى، يمكن الاشارة إلى أن احصاءات التمويل، التي تشير إلى تبوأ الولايات المتحدة الامريكية المرتبة الأولى عالميا كأكبر مانح لهذه المنظمات، كما يلاحظ تركز أنشطة معظم هذه المنظمات في الدول التي تعتبر محط اهتمام السياسات الخارجية للقوى الكبرى، كما يلاحظ أن الكثير من هذه المنظمات تستخدم لأغراض جمع المعلومات عن المجتمعات التي تعمل في نطاقها، وهذا الأمر يعد احد تجليات التحول الحاصل في اداء أجهزة الاستخبارات العالمية، باللجوء إلى جمع البيانات والمعلومات عبر مؤسسات وسيطة، مثل الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، وتحت لافتات براقة مثل استطلاعات الرأي والبحث العلمي وغير ذلك، بدلا من أن تقوم هذه الأجهزة بجمع المعلومات بشكل مباشر كما كانت تفعل في الماضي، والتخلص من اتهامات التخابر وغير ذلك من اتهامات ظلت لعقود تلحق بأنشطة جمع المعلومات التي بات بالإمكان الحصول على أغلبها من خلال هذه الأدوار الوسيطة ومن دون الحاجة إلى تدخلات امنية استخباراتية. هذا الكلام لا يعني اتهاما لجميع المنظمات غير الحكومية او مؤسسات المجتمع المدني بالعمالة أو بالخضوع لتوظيف سياسي، فهناك بالفعل منظمات تعمل في أغراض انسانية وتطوعية بحتة وتلتزم بأجندة عملها وتطبقها بقدر عال من المهنية والحياد والاستقلالية والاحترافية. فالحقيقة تقتضي القول بأن المنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني، محلية وعالمية الطابع، باتت جزءا لا يتجزأ من ثقافة القرن الحادي والعشرين، لدرجة أنه لم يعد بإمكان أي دولة إغلاق الباب تماما في وجهها، حيث باتت هذه المنظمات احد متلازمات ظاهرة العولمة وتجلياتها على الصعد كافة، خصوصا في مجال العمل الخيري في الدول الغربية، حيث باتت هذه المؤسسات الأهلية قطاعا رئيسيا وركيزة حيوية للاقتصادات المعاصرة، بما توفره من خدمات في مجالات تنموية عدة مثل التعليم والصحة والثقافة والفنون والرعاية الاجتماعية وغير ذلك. ولاشك أن المنظمات غير الحكومية ذات الطابع الدولي العابر للقارات هي جزء من النظام العالمي الجديد، منذ أن تم تصنيفها وفقا لوثائق الأمم المتحدة الصادرة منتصف تسعينيات القرن العشرين باعتبارها كيانات غير هادفة للربح واعضاؤها مواطنون أو جماعات من المواطنين ينتمون إلى دولة واحدة او أكثر وتحدد الارادة الجماعية لأعضائها طبيعة الأنشطة التي تمارسها هذه الكيانات، ومن ثم فقد اصبحت داعما للقطاعين الحكومي والخاص في منظومات العمل التنموي بالدول المتقدمة. وقد تزايدت اعداد هذه الجمعيات والمنظمات وتكاثرت بشكل هائل ورافق ذلك تنوع واسع في أدوارها ووظائفها وأنشطتها، وانخرطت في مجالات جديدة مثل البيئة والمرأة والطفل وحقوق الانسان ونشر قيم الديمقراطية والمساءلة والحكم الرشيد وغير ذلك من جوانب ذات بعد سياسي، وهذه النوعية من المنظمات هي الأكثر استخداما أو توظيفا في مجالات السياسية الخارجية للدول الكبرى باعتبار تقاريرها الدورية التي تصدرها أدوات ضغط مؤثرة على الدول المستهدفة. السؤال الذي يساور الكثيرين هو: لماذا يتم توظيف هذه المنظمات وماهي مصلحة القوى الكبرى في الضغط على الدول وتحمل اعباء تمويل هذه المنظمات لتحقيق هذا الغرض؟ وهو سؤال بديهي ويتطلب الرد عليه الالمام بطبيعة النقاش الفلسفي الدائر حول طبيعة النظام العالمي الجديد ذاته، حيث يرى أغلبية المفكرين أن هذا النظام هو نظام يعكس الهيمنة الأمريكية على العالم وفرض النموذج الثقافي الأمريكي على الآخرين، بمعنى أمركة العالم بما في ذلك السياسات ونظم الحكم والادارة والسوق عبر استخدام ادوات هيمنة وسيطرة منها منظمات المجتمع المدني او المنظمات غير الحكومية عالمية الطابع. فالعولمة بالأساس كظاهرة اجتماعية عابر للجغرافيا هي نتاج أمريكي بامتياز، وهي رمز لقوة النموذج الامريكي، رغم ان هناك من ينادي ب "أنسنتها" أو يتمسك بتحويلها إلى عملية تبادلية عالمية للمنافع بين الأمم والدول والشعوب وفق منظور حضاري نبيل. وفي مجمل الأحوال، فإن المنظمات غير الحكومية في معظمها هي كيانات ترفع شعارات اجتماعية براقة ولكنها تنطوي في جوهرها على ميكانيزمات تنخر في سيادة الدولة الوطنية وتسهم في تآكلها وتحللها لمصلحة ظواهر متنامية يروج لها في أدبيات النظام العالمي الجديد مثل الحكومة العالمية والمواطن العالمي وغير ذلك من مفاهيم.