لم ينتظر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مرور 100 يوم ليكمل الإعلان عن ملامح الدولة السعودية الرابعة.فالعمل على بناء هذه الدولة كان قد انطلق يوم الجمعة 23 يناير (كانون الثاني) الماضي بعيد رحيل الملك عبد الله بن عبد العزيز الى دار البقاء. ذلك أن الملك سلمان أعلن في اليوم الـ95 من عهده عن تعيين الأمير محمد بن نايف ولياً للعهد ، والأمير محمد بن سلمان ولياً لولي العهد، مرسخا بذلك إعداد "جيل الأحفاد"، أي جيل أحفاد مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن ال سعود.وبمقتضى القرارات الجريئة الاخيرة غدا الملك سلمان آخر من يتولّى الحكم من "جيل الأبناء" أبناء الملك المؤسس. لكن أهم ما يميز الدولة السعودية الرابعة، التي يؤسس لها الملك سلمان ويرسم منظومتها القيمية، هي أنها لن تقوم على أنقاض الدولة السعودية الثالثة كما حدث للدولتين السعوديتين الأولى والثانية، بل ستقوم على الإصلاح وصيانة البيت الداخلي في ظل الاستقرار والاستمرارية والمزاوجة بين حماسة الشباب وطموحه في التغيير الهادىء وخبرة الكبار ودرايتهم، بمعنى جمعها الأجيال الثلاثة من اولاد الملك المؤسس وأحفاده، وجعل منظومة الحكم قائمة على اساس الجمع بين جيل الخبرة والحكمة متمثلاً بالملك سلمان (79 سنة)،رجل الدولة المحنك وحكيم الاسرة وضابط إيقاعها، والجيل الثاني الذي يجسّده الأمير محمد بن نايف (55 سنة) المتمرّس في قضايا الأمن، ورمز مكافحة الارهاب في بلاده والمنطقة، بينما يمثل الأمير محمد بن سلمان (30 سنة) الجيل الثالث بحماسته وآماله وتطلعاته وحزمه. ولقد أثبت عن جدارة خلال الأشهر الثلاثة الماضية كفاءاته بعدما استطاع فعلاً ان يكسب الرهان من خلال "عاصفة الحزم" مثبتاً للقاصي والداني، حقاً، أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. ولا يختلف اثنان في المملكة أن منظومة الحكم في الدولة السعودية الرابعة سيكون عنوانها هو "تفاعل الأجيال .. وضخ دماء جديدة في عروق وشرايين المسؤولية". وهكذا رأينا إسناد مسؤوليات وزارية حساسة إلى وزراء من الشباب تخرجوا في كبريات الجامعات الغربية مثل الدكتور عادل الطريفي وزير الاعلام والثقافة، والمهندس خالد الفالح وزير الصحة، والدكتور عزام الدخيّل وزير التعليم، وعادل الجبير وزير الخارجية. وهو ما يحمل دلالات ذات مغزى خاصة اذا ما تذكّرنا أن الشباب يشكلون 70 في المائة من سكان السعودية. لقد رأى بعض المراقبين في القرارات الاخيرة غير المسبوقة التي اتخذها الملك سلمان أنها جاءت سريعة ومفاجئة، لكن الحقيقة ان السرعة كانت مطلوبة، اما القول بالمفاجئة، وخاصة تعيين ولي عهد وولي ولي عهد جديدين، فإنها لم تكن ذات موضوع، ما دام التعيين جاء في سياق واضح للعيان، ونتيجة حتمية وتسلسلية منطقية للقرارات التي اتخذها الملك سلمان بمجرد تسلمه مقاليد السلطة. هناك ثمة قناعة أن الملك سلمان، الذي راقب المشهد عن كثب في بلاده، وخبر دهاليز الحكم فيها على امتداد اكثر من ستة عقود، يعد في طليعة مَن يدركون أن المملكة أضاعت الكثير من الوقت، ليس لأنها كانت راغبة في ذلك، وإنما بسبب ظروف قاهرة كانت أقوى وأقدر من توقها للسير إلى الأمام بالسرعة اللازمة بدأت مع إصابة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز بجلطة في نوفمبر 1995، و تولّى - ولي العهد آنذاك - الملك عبد الله بن عبد العزيز منذ عام 1997-امام اشتداد مرض الملك فهد - ادارة معظم شؤون البلاد اليومية. ولم يتول الملك عبدالله السلطة رسمياً الا بعد رحيل الملك فهد في 27 مايو 2005.ثم في عهد الملك عبد الله توفي اثنان من أولياء العهد هما الأمير سلطان بن عبد العزيز (22 أكتوبر2011) ، والأمير نايف بن عبد العزيز ( 16 يونيو 2012). ولقد انتقل كلاهما إلى رحمة الله في ظرف مدة زمنية وجيزة (8 أشهر) ، وبالتالي كان من الطبيعي ان يبادر الملك سلمان الى وضع بلاده على سكة المستقبل، والإعداد لانتقال سلس للسلطة الى جيل احفاد المؤسس ، وإدخال إصلاحات متعدّدة، منها إسناد وزارة سيادية مثل الخارجية إلى شخصية من جيل الشباب ولا تنتمي بالضرورة إلى الأسرة المالكة. لقد قام الملك سلمان منذ توليه الحكم بالعمل على خطين متوازيين: داخلي وخارجي، جاعلاً "الحزم " ديدنه، وخارطة طريق له لمواجهة التحديات الجيو- استراتيجية التي تحيط بالمملكة جراء تغلغل ايران في المنطقة، ومحاولتها تطويق بلاد الحرمين عبر السيطرة على لبنان وسوريا واليمن، بعدما تمكنت من ابتلاع العراق. وايضاً جراء الخذلان الاميركي المتمثل في رغبة "واشنطن باراك أوباما" في عقد صفقة مع "إيران الملالي" مهما كان الثمن، وحتى لو تطلّب الأمر إغفال مصالح الحلفاء التقليديين في المنطقة. الحقيقة الأكيدة الآن أن "عاصفة الحزم" أعادت السعودية الى دورها الريادي العربي-الإسلامي ، ووضعت إيران في حجمها الطبيعي، مبرزة ان الرياض لا تقبل ان تساوم على أمنها واستقرارها، وأنها إذا كانت دائماً قد تصرّفت بدبلوماسية ونعومة فهذا لا يعني انها لا تتوافر على مخالب بمقدورها ان تستعملها اذا ما بلغ السيل الزبى. وفي سياق هذه الحيوية السياسية التي تعرفها السعودية، اذكر ما رواه لي قبل سنوات احد مستشاري الملك محمد السادس عن كيف أن الملك سلمان كان معجباً ومتحمسا للإصلاح الذي يقوم به ملك المغرب الشاب في مختلف الصعد والمجالات، وأنه كان يرى أن عليه المضي قدما في ذلك. ومن ثم، فلا غرابة اليوم أن يرفع الملك سلمان راية الإصلاح والتطوير الهادىء لمنظومة الحكم في بلاده في ظل الاستمرارية والاستقرار. .. وغدا يأتيكم الخبر اليقين