بغض النظر عن تمنع المملكة العربية السعودية أو أي من دول الخليج عن لعب دور «شرطي الخليج»، إنما في منطقة تعمها الفوضى كمنطقتنا، يبدو أن مجريات الأحداث و«واقع الأمر» سيجبر دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية حتما ـ أن تضطلع بهذا الدور وتقوم به عاجلا أم آجلا. لعبت إيران منذ نظام الحكم السابق أيام الشاه هذا الدور إلى يومنا هذا، ورفضت السعودية أن تقوم به، لأن المملكة تبنت سياسة عدم التدخل في شؤون الآخرين، إنما هذا الدور إلى جانب أنه سمح لإيران بالتدخل في شؤون الآخرين، هو الذي منح النظام الإيراني «الصلاحيات» التي مكنته من احتلال جزر الإمارات الثلاث، ومكنته من الاحتفاظ بإقليم الأحواز محتلا، ومكنها حتى إبان حكم الملالي من إبقاء دول الخليج في حالة دفاع عن النفس دوما تجاه الاستفزازات المتكررة من جهتها، إلى أن وصلت بنفوذها إلى احتلال أو شبه احتلال لثلاث عواصم عربية، هذه حقيقة مُرة نحبها أو نكرهها، إنما هي المحصلة النهائية في عالم لا يعترف إلا بما يفرضه الأمر الواقع بغض النظر عن شرعيته. القوة التي ظهرت بها المملكة العربية السعودية، ليس في «عاصفة الحزم» فحسب، بل حتى في القرارات الداخلية، وعلى رأسها تعيين محمد بن نايف وليا للعهد وهو الرجل الذي أرعب التنظيمات السنية المسلحة، أعطت ملامح للدولة القادمة، دولة قادرة على أن تدخلها قائمة ترشيحات وظيفة «شرطي الخليج» بعد أن استبعدت من هذه المنافسة تماما، وأوشك العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة، التي لها كثير من المصالح في هذه المنطقة أن تبرم عقد الاحتكار مع إيران لأداء هذه المهمة كبند لم يعد سريا يضاف إلى بنود الاتفاقية الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، حفاظا على انسيابية الحركة الدولية في مياه الخليج وفي المنطقة بأسرها، ولتوكل إليها مهمة القضاء على «الإرهاب». يبدو أن واشنطن وإلى وقت قريب كانت على قناعة بأن إيران هي الدولة «الوحيدة» المستقرة في المنطقة والقادرة على مساعدتها في القضاء على الإرهاب السني الذي يهدد الأمن الدولي، ولم تقتنع بعد أن الخلاف العقائدي بين تلك التنظيمات وإيران لن يحول دون تنسيقهما حين تتفق مصالحهما، أو تقتنع بأن التنظيمات الشيعية المسلحة لا تقل خطرا عن السنية منها. لم تقتنع واشنطن بعد، أن أكثر الدول بحاجة إلى وجود تنظيمات إرهابية سنية في المنطقة كـ«داعش» أو «القاعدة» هي إيران، إذ إنه بحجة قتال «داعش» و«القاعدة» شرعنت إيران دخولها إلى سوريا والعراق واليمن، ودون تلك الحجة كان من الصعب على إيران تبرير وجودها ميدانيا على الأراضي العربية أو تبرير حملها لملفات دول عربية في أروقة الدبلوماسية الدولية، لذا فـ«داعش» و«القاعدة» (الإرهاب السني) ضرورة إيرانية، فإيران لديها مشروع توسعي سمته «تصدير الثورة» في بداية الثمانينات أو سمته محاربة الإرهاب في الألفية الثانية، فهو ذات المشروع الذي لم يتغير، واستبعاد التنسيق بينهما على الأقل في المواقع التي تتوافق فيها مصالحهما سذاجة سياسية بدأت تتكشف يوما بعد يوم دلائلها. إيران تتبرع وتعرض نفسها للعب دور شرطي الخليج الذي سيؤمن السلام في هذه المنطقة، وقد أكد على ذلك الرئيس روحاني في كلمته التي ألقاها بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين للثورة والتي ورد فيها: «إن هدف مفاوضات إيران مع الدول العالمية بشأن برنامجها النووي، هو استفادة جميع الأطراف»، معتبرا في الوقت نفسه أن «دور إيران الإقليمي هو عنصر استقرار للشرق الأوسط وخط دفاعه في وجه الإرهاب». وتناول الرئيس الإيراني روحاني الانتقادات بشأن الدور الإقليمي لإيران، قائلاً: «إذا كنتم تريدون السلام والخير في الشرق الأوسط، وتريدون اقتلاع الإرهاب فلا يوجد طريق آخر سوى وجود الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، مما يؤكد أن مكافحة «الإرهاب» هي الحجة الوحيدة التي تتمسك بها إيران وتتعلق بهان ولولاها لما وجدت طريقا تبرر به وجودها على الأراضي العربية في كل من العراق وسوريا واليمن، فآثرت الولايات المتحدة في سبيل مهمة (القضاء) على الإرهاب السني أن تتغاضى عن كل مؤشرات التوسع الإيراني. «الأمر الواقع» إذن هو الذي تبنى عليه السياسات الخارجية وليس العكس، هذه هي استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، سواء كان هذا الأمر الواقع شرعيا أم غير ذلك، فإن تغيرت المعطيات على الأرض تغيرت السياسة ضمن ذات الاستراتيجية. واقع الأمر في منطقتنا فرضته إيران كما بينّا على مدى ثلاثين عاما وفرضه تقاعس الدول العربية واكتفاؤها بالنشاط في الأروقة الدبلوماسية. نحن اليوم أمام متغيرات في هذا «الأمر الواقع» تمثلت في فشل إيران في القضاء على التنظيمات السنية المسلحة كـ«داعش» و«القاعدة» رغم منحها السيطرة كاملة في العراق، انتهى بها المطاف إلى وقوع أكثر من ثلث أرضها تحت سيطرة تنظيم داعش، وسقوط الأسلحة والمعدات الأميركية في يد هذا التنظيم، ثم فشل الدولة العراقية الجديدة في استعادة مواقعها رغم الدعم الأميركي غير المحدود، والدعم الإيراني المسكوت عنه! حتى اضطر الكونغرس الأميركي بعد اثني عشر عاما من تجريد السنة من السلاح، وتسريح جيشه إلى أن يصوت على قرار إعادة تسليح المكون السني، ليقر بذلك فشل السياسة الأميركية السابقة في تحقيق أهدافها، ويقر بفشل إيران التام في القيام بواجبها سواء بشكل مباشر أو عبر عملائها في المنطقة. سوريا موقع آخر تجري أحداثه الأخيرة في الأرض مغيرة أمرا واقعا استمر أربع سنوات فرضته إيران رغم عدم شرعيته، واضطرت الولايات المتحدة إلى الاستجابة له والتعاطي معه ورسم سياساتها المستقبلية بناء عليه، لتفاجأ بأن إيران فشلت مرة أخرى في القضاء على تنظيم داعش وفشلت في إنهاء الأزمة السورية رغم كل الدعم الذي قدمته لنظام الأسد مصحوبا بدعم روسي كذلك. منح ملالي إيران فرصة ذهبية ليلعبوا دور شرطي الخليج اثني عشر عاما أحدثوا فيها كل أشكال الفوضى، ولم ينجحوا في تحقيق أهم مهامهم وهي القضاء على الإرهاب السني، الذي احتجوا به والذي ذكره روحاني في خطابه المشار إليه آنفا. ويأتي زمن سلمان بن عبد العزيز فيغير واقعا أحدثته إيران في اليمن وفي سوريا، ويغير واقعا ظن فيه أن المملكة تشيخ وتكبر وتهرم، ليؤكد للعالم أجمع أن السلام والأمان في المنطقة لن يكون دون دول مجلس التعاون بقيادة المملكة العربية السعودية. قد لا تتبنى المملكة سياسة التدخل في شؤون الآخرين، إنما في النهاية علينا إظهار قوتها العسكرية، واستخدامها لإخراج النفوذ الإيراني من منطقتنا، وتحجيم إيران لتعود إلى داخل حدودها السياسية، علينا أن نشغل إيران بالدفاع عن حدودها وامتلاك ناصية أوراق الضغط الكثيرة التي تقلق إيران، فإن كانت تلك المهام يضطلع بها «شرطي الخليج»، وهو مصطلح غير مرغوب فيه فسمّوه ما شئتم، فواقع الأمر يحتم أن يقوم مجلس التعاون بأداء مهامه! * نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط"