اجتماعات القيادات الخليجية بالقيادات الأميركية الأسبوع المقبل ستكون فرصة تاريخية لمنعطف أساسي في العلاقة الأميركية – العربية إذا أحسنت القيادات الخليجية فن التفاوض بحزم وجدّية. فلقد اعتادت الطبقة السياسية الأميركية على الاستخفاف بالزيارات العربية وهي تركن إلى الصفقات الخفية وراء الأبواب المغلقة وتراهن على اللاثقة والخلافات العربية – الغربية. الأمور تختلف هذه المرة بسبب ما يشبه التفويض الخليجي للقيادة السعودية الجديدة لتقدم الرؤية المشتركة للنقلة النوعية المرتقبة في العلاقة الأميركية – الإيرانية على ضوء الاتفاق النووي المفترض التوصل إليه في نهاية حزيران (يونيو). هموم دول مجلس التعاون الخليجي الأمنية ستكون حاضرة جداً في الاجتماع مع الرئيس باراك أوباما الذي ربط تركته وسيرته التاريخية بالتوصل إلى اتفاق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. أية محاولة لإلغاء التلهف لدى الرئيس أوباما لإنجاز الاتفاق مع طهران ستصطدم بامتعاض الرجل الذي لا يتقبّل الانتقاد بسهولة ولا رغبة لديه بالانجراف عن مساره باتجاه إيران. أي تذكير له بأنه تراجع عن الخط الأحمر الذي رسمه في سورية في الساعة الأخيرة سيثير غضبه ويجعله أكثر انتقاداً لمخاطبيه. باراك أوباما ليس رجلاً سهلاً بل أنه أكثر تعقيداً الآن وهو على عتبة الاتفاق النووي مع إيران – فلا صبر في حوزته ولا استعداد لديه لكثير من الأخذ والعطاء. لذلك، إذا كانت القيادات الخليجية واعية للمزاج الأميركي العام ومزاج باراك أوباما، لا بد أنها ذاهبة إلى واشنطن واثقة من نفسها وخياراتها لتطرح فوائد الولايات المتحدة من العلاقة معها وليس لتطرح احتياجاتها من الولايات المتحدة. فالفارق كبير بين الطرحين. القيادات الخليجية لن تتراجع عن التحالف ضد «داعش» لأنه تنظيم يهدد وجودها ويخدم العداء للسُنَّة باتهامهم بأنهم وراء إرهاب 11/9 ورعاة رعب لا مثيل له يبرمجه تنظيم «داعش». قد تضطر هذه القيادات لصياغة طروحات منطقية وعملية لإبلاغ إدارة أوباما والكونغرس الأميركي بكل بساطة أنها جاهزة لترك ساحة محاربة «داعش» لإيران بمفردها لامتحان قدراتها الحقيقية على محاربة «داعش» من دون مشاركة السنَّة في هذه الحرب. وقد يكون مفيداً للقيادات الخليجية أن تفصَّل أمام الطبقة السياسية والإعلامية الأميركية كيف تساهم الدول الخليجية والعربية الأخرى في الحرب على «داعش» وما هو مصير تلك الحرب من دون المشاركة العربية والسنّية بالذات. هكذا تسقط الطروحات الإيرانية بأن طهران هي الشريك الذي في وسعه القيام بالمهمة في حين أن الشراكة العربية – الأميركية في الحرب على «داعش» تخدم المصلحة الإيرانية، وأن إيران لن تتمكن من إلغاء «داعش» إذا انسحبت الدول العربية من «التحالف الدولي». دول مجلس التعاون الخليجي ليست جاهزة لتفكيك المجلس واستبداله بنظام أمني إقليمي بديل يضم إيران والعراق لأنها تدرك أن طهران تريد تفتيت التجمّع العربي الوحيد الذي له مؤسسات أمنية واقتصادية. مجلس التعاون الخليجي ليس في المصلحة الإيرانية، ثم أن النظام الأمني الإقليمي الذي تريده إيران يشكل مدخلاً لطهران لتحقيق أمرين أساسيين هما: أولاً، نصب إيران الفاعل الأول في الأمن الخليجي لا سيما بعد الإقرار الدولي بأهميتها النووية. وثانياً، استبدال العلاقة الأمنية الأميركية مع دول مجلس التعاون الخليجي بعلاقة أميركية – إيرانية تضيفها تفوقاً. وعليه، بطبيعة الحال، لا بد أن يكون في حوزة القيادات الخليجية أن تشرح للطبقة السياسية والإعلامية الأميركية ثقوب الطروحات الإيرانية وأسباب رفضها، بواقعية سياسية. واضح أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية تتأهب للاستفادة من الواقع النووي الجديد – في أعقاب الاتفاق مع إيران – لإبرام صفقات «الحماية» من التفوّق الذي ستشعر به طهران في أعقاب الاتفاق. لذلك يريد الرئيس أوباما تجديد المساعي لتطوير «نظام دفاع صاروخي متكامل للخليج». فالصناعات العسكرية الأميركية متأهبة للاستفادة. كذلك هي الصناعات العسكرية الأوروبية، بالذات الفرنسية، التي تريد الاستفادة من الانفتاح الخليجي على الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عبر استضافته في القمة الخليجية. الصناعات النفطية والصناعات البنيوية أيضاً متأهبة لأن رفع العقوبات عن إيران يسيل لعاب «وول ستريت» كما يسيل لعاب الشركات النفطية الأوروبية. فلا أحد منها يريد أن يترك ساحة الاستفادة حصراً للشركات الروسية أو الصينية أو الهندية أو البرازيلية. لغة المصالح هي السائدة الآن بتزامن مع المفاوضات السياسية والنووية. في السابق، أسرعت القيادات الخليجية إلى الإرضاء بعقود تجارية وعسكرية. لعلها، هذه المرة، آتية إلى واشنطن بتأنّ أكثر وهي تربط الاستراتيجي بالتجاري في البقعة الخليجية وخارجها. وسورية مثالاً. القيادات الخليجية، وبالذات السعودية، ترى في غايات الجمهورية الإسلامية الإيرانية مشروعاً إقليمياً يطاول الأمن القومي العَربي بدءاً بالسعودية عبر حدودها مع اليمن، مروراً بالعراق، وصولاً إلى سورية ولبنان. تدرك أن المفاوضين الست في إطار 5+1 مع إيران لبّوا الإصرار الإيراني على عدم البحث في الشق الإقليمي وتكريس المفاوضات للنووي حصراً. وللسجل كان الموقف الإيراني والموقف الأميركي في المفاوضات عكس ما استقر عليه الأمر لاحقاً – أي أن طهران أرادت البحث في النواحي الإقليمية بادئ الأمر ثم وجدت المعارضة الأميركية والأوروبية لطرحها في مصلحتها. وعليه، مضت الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى الانصباب على المفاوضات النووية ورفضت البحث في الممارسات الإيرانية الإقليمية الممتدة من العراق إلى سورية إلى لبنان ثم اليمن. الآن، يحاول بعض هذه الدول أن يستدرك هذا الخلل ويقول انه لم يفت الأوان، وهناك رأيان إزاء هذا الاستدراك: رأي يقول إن مرحلة «الصفقة الكبرى» فاتت ولا مجال الآن سوى لـ «ترقيع» هنا وهناك. ورأي آخر يجد أن الوقت الآن هو الوقت المناسب لإصلاح الخلل لا سيما أن طهران وصلت إلى المحطة الأخيرة وهي في أشد الحاجة الآن للتوصل إلى الاتفاق. وبالتالي، هذا هو وقت المقايضات الكبرى وربما «الصفقة الكبرى» لم يفت أوانها بعد. سورية محطة رئيسية في المقايضات. ولذلك دبّت الحركة في المسألة السورية. ميدانياً في موازين عسكرية ليست لصالح النظام في دمشق، وسياسياً في طروحات جديدة للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الذي نصب خيمة في جنيف دعا إليها جميع أقطاب المعارضة وكذلك إيران. طهران قد تحتفي بأنها دُعيت على رغم التحفظ الخليجي على إعطائها دوراً في مصير سورية فيما هي اليوم طرف في الحرب الأهلية هناك. لكن إيران اليوم تحت الرقابة لأنها منذ البداية رافضة لبيان جنيف الداعي إلى سلطة انتقالية في دمشق. وبالتالي، عندما تطرح القيادات الخليجية المسألة السورية في كامب ديفيد مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، في حوزتها ذخيرة بسيطة قوامها إبراز تحايل طهران على مرجعية الحل السياسي لسورية. لكن هذا لن يكفي. فإذا انحنت القيادات الخليجية أمام أنصاف الحلول وأنصاف الوعود للمعارضة السورية التي اعتادت إدارة أوباما عليها، عندئذٍ لن تؤخذ المواقف الخليجية بأية جدية ولن يكون لحزمها في اليمن أي مردود إقليمي. أما إذا عزمت وحزمت، فإن المردود سورياً سيكون مهماً في إطار لجم الطموحات الإيرانية الإقليمية. في موضوع اليمن، لن يكون إبراز المواقف الخليجية، لا سيما السعودية، صعباً. فكما تريد إدارة أوباما احتواء الأزمة اليمنية، تريد الرياض أيضاً استراتيجية خروج من اليمن. وهنا، يمكن للقيادات الخليجية الإصرار على إدارة أوباما أن في وسعها حقاً إبلاغ طهران بصرامة أن الوقت حان للكف عن التلاعب باليمن وعن استخدام الحوثيين لتأجيج حرب استنزاف مدمرة للشعب اليمني، وان لا تقهقر للتحالف العربي في اليمن مهما كابرت إيران لأن حدث اليمن إبلاغ أساسي لها عنوانه «كفى». ماذا نووياً؟ قد تأتي القيادات الخليجية إلى واشنطن آملة بأن يقف الكونغرس معها في معارضة صفقة مع إيران تعطيها التفوّق الاستراتيجي وبلايين الدولارات لتحقيق طموحاتها النووية وتوسعها الإقليمي على السواء. الأفضل لهذه القيادات ألاّ تضع البيض كله في تلك السلّة. والأفضل أن تحرص على ألاّ يبدو أنها تتدخل في السياسة الداخلية الأميركية. بيت القصيد في مصير الصفقة النووية هو رفع العقوبات وإعادة فرضها في حال إخلال طهران بوعود عدم تصنيع القدرات النووية العسكرية، وآلية الإشراف على عدم تطوير القدرات النووية السلمية إلى قدرات نووية عسكرية. فإذا أتت القيادات الخليجية لمجرد إبلاغ الطبقة السياسية الأميركية بما تراه من أنماط «الخبث» و «الغش» و «الخداع» الإيراني، لن تجد في واشنطن آذاناً مستمعة. أما إذا ذهبت إلى واشنطن بأسئلة دقيقة تصر على أجوبة عليها في هاتين الناحيتين من المفاوضات النووية، عندئذ تكون أبلغت واشنطن أنها غير مستعدة للاكتفاء بالكلام المعسول المسمى «الطمأنة» وأن ما تصر عليه هو ضمانات استراتيجية وليس مجرد الإلهاء للاستبعاد عن صنع مستقبل المنطقة. * نقلا عن "الحياة"