ثمة شعور في لبنان أن حزب الله لن يعود من سورية. هذا شعور وليس اقتناعاً أو اعتقاداً، وهو ما يجعله أصلب. ذاك أن الاقتناعات عرضة لانخفاض منسوب موضوعيتها، أما المشاعر، وهي غالباً كامنة وغير معبر عنها بدقة، فأكثر خبثاً وصدقاً. فاللبنانيون لم يُكاشفوا أنفسهم حتى الآن بحقيقة المهمة التي توجه الحزب للقيام بها في سورية! وهذا ليس تقية، ذاك أن النفس لا تمارس تقية على حالها، إنما على غيرها. النفس إذا أرادت أن تُخفي أمراً عن صاحبها لا يسعها إلا أن تؤجل تداوله معه. ففي قرارة كل لبناني، حتى لو كان من أشد المؤيدين للنظام السوري، قناعة بأن لا مستقبل لهذا النظام، ويُستعاض عن مواجهة النفس بهذه الحقيقة بالاعتراف بأن ثمة حرباً دائرة هناك، وأن نهايتها غير واضحة، زمناً وشكلاً. فلنؤجل إذاً استحقاق عودة الحزب حتى يحين موعدها. اللبنانيون يعرفون أيضاً أن الحزب ألغى حدود لبنان عندما تجاوزها للقتال. يعرفون ذلك لسبب بسيط، هو أنه فعلها حقاً. المعادلة هنا بسيطة: حزب لبناني مشارك بقوة في الحكومة والبرلمان قرر أن يُقاتل في سورية ويتحول قوة رئيسية في حربها. قد يختلف اللبنانيون على صحة هذا الخيار، لكن خلافهم على حقيقة أن المشاركة في القتال عملية إدغام للحدود، لن يكون ذا قيمة، ذاك أن الأمر تم ولا ينتظر رأيهم فيه. لبنان يُقاتل في سورية، وسورية لن تكون بعد هذه الحرب سورية الأسد. وهذا ليس من باب توقع أن الحزب سيخسر الحرب هناك، فالتوقع مؤجل، واللبنانيون الآن لا يقوون عليه. كل ما يستطيعونه هو الاعتقاد أن الحزب لن يعود من سورية. والحال أن هذا الإنكار ضروري على ما يبدو لإقامة توازن نفسي يقي من الانهيار، وهو ضروري أيضاً على ما أثبتت التجربة. فعلى رغم استهوال ما جره القتال في سورية من احتمالات على لبنان، يبقى أن هناك شعوراً، غير صحيح على الأرجح، هو أن الحزب غادر لبنان إلى سورية. هذا الشعور يخترق الانقسام اللبناني. وهو على رغم أنه وهمي فثمة ما يُساعد على توهمه. هناك آلاف من مقاتلي الحزب غادروا لبنان للقتال في سورية، وأثر غيابهم لا بد أن يُرصد في الحياة اليومية. في قرى جنوب لبنان يمكن للمرء أن يشعر بانكفاء الحزب عن الحياة اليومية من دون أن يتميزه بوضوح. هو شعور داخلي، وهو وهم لا يجد ما يُثبته، لكن إشارات عنه تأتيك من حيث لا تأتي الإشارات عادة. كأن تشعر مثلاً أن فسحة العيش خارج قيم الحزب صارت أوسع، وأن الأخير مكتفٍ بصمت الناس عن مهمته في سورية، أو أنه يُكافىء عدم اعتراضهم عليها بأن يدعهم على حالهم التي يرغبونها لا التي يرغبها لهم. في الجنوب ثمة تضخيم مشهدي للمهمة في سورية. صور كثيرة لقتلى الحزب وشعارات «لبيك يا زينب»، انما هناك أيضاً تفكك في المشهد، وعدم انسجام يُشعرك بأن آلة إيديولوجية ركيكة وأهلية وراءه، لا آلة حزبية شديدة الصرامة والوطأة. صور «الشهداء» متفاوتة وغير مندرجة في كادر واحد على ما كان يحرص الحزب على فعله، وشعارات «لبيك يا زينب» محاطة بعبارات محلية متخففة من الإيديولوجيا. ووسط كل هذا الضجيج، لا بد من رصد ضعف في الرقابة على أمزجة الناس وعلى ثيابهم وأكلهم وشربهم، وتعاظم للميول الاستهلاكية والذهاب بها إلى أقصى الكيتشية. أما النتائج غير المباشرة لمغادرة حزب الله الوهمية لبنان، فإنه اضطر أن يُقفل الجبهة مع إسرائيل، وهذا ما يعرفه اللبنانيون، وإن أنكره نصفهم. لا بل إن النصف الذي يُنكره، والذي يُعلن اعتقاده بأن الحزب مستمر في مواجهة اسرائيل، يشعر أكثر من غيره بالتخفف من تلك المهمة الخطرة والمكلفة التي أعفى الحزب الجنوبيين منها، أي الجبهة المفتوحة مع اسرائيل. خصوم الحزب اللبنانيون اختبروا أيضاً خروجه الوهمي من ساحة مواجهتهم. السهولة التي جرى فيها تشكيل الحكومة اللبنانية كانت إحدى نتائج هذا الخروج مع ما ترافق مع تشكيلها من تساهل في توزيع الحقائب. وكذلك النهاية الغامضة والسهلة لحرب التبانة - بعل محسن في مدينة طرابلس. ذاك أن الجبهة المفتوحة منذ سنوات طويلة لم تعد تجد من يمولها في المقلب العلوي منها، وقد غادر آل عيد البعل على نحو تراجيدي غامض. خُطب أمين عام حزب الله، البالغة التوتر ببعدها الإقليمي، انحسر عنها الاهتمام بلبنان، وانخفض معدل انفعاله في ما يتعلق بالوضع الداخلي. كل ما ورد أعلاه صحيح، لكنه لا يخلو من توهم وإنكار. صحيح أننا، كلبنانيين، أرسلنا حزب الله إلى سورية، لكننا أرسلنا معه لبنان إلى هناك، وبما أننا لن نستعيد الحزب من سورية، على ما نشعر، وأحياناً نغبط أنفسنا بخبث على ذلك، فنحن أيضاً لن نستعيد لبنان الذي ذهب مع الحزب في تلك المهمة. فإلغاء الحدود يعني أن لبنان، في معادلة الشقيق الأكبر والشقيق الأصغر، عاد محافظة سورية. هو الآن محافظة سورية آمنة، لكن لا ضمانة لاستمرار هذا الأمن. والقول إن لبنان أرسل الحزب في هذه المهمة يبقى صحيحاً على ما فيه من مبالغة. فالمؤسسات السياسية والعسكرية والاجتماعية اللبنانية عجزت عن منعه من الذهاب للقتال في سورية، والحكومة اليوم «تقف على الحياد» في حملة الحزب في القلمون، على ما ذكر بيان للجيش اللبناني. مجلس النواب أيضاً صامت، والمسيحيون «أصحاب السيادة وضمير الكيان» متنازعون بين موافق وعاجز عن تحويل رفضه فعلاً سياسياً. وهذا كله يسمح بالقول إن لبنان هو من أرسل حزب الله إلى سورية. ينطوي كل ذلك على وهم أكبر يتمثل في أن الحزب لن يعود من سورية، فهو إذا هُزم هناك، فستكون عودته تراجيدية، وإن انتصر في تسوية تُطيح الأسد وتحجز مكاناً لتسوية مع الإيرانيين فسيبقى لكي يمثلهم في دمشق. هذا جزء من الهذيان اللبناني بذلك الحزب الذي وُلد في لبنان وصار أكبر من الوعاء الذي احتواه. *نقلاً عن "الحياة"