اتحفنا، ويا لكثرة ما يتحفنا الرئيس باراك أوباما، بتحليل جديد عن الأزمة في منطقتنا مفاده أن الصراع في جزء منه هو صراع بين السنة والشيعة، قائلاً بالحرف «ولا يمكن للولايات المتحدة حل هذا الصراع الدائر منذ قرون بين ليلة وضحاها». ويكمل، لا فض فوه، إن أسباب التطرف لدى الشباب المسلم سببها ديموغرافي واقتصادي، وعزا النزعة التي نراها الآن لديهم إلى «عقيدة منحرفة تم تضخيمها عبر الإنترنت وهذه العقيدة تستقطب قلوباً وعقولاً ووقف انتشارها مشروع سيستغرق سنوات». نبدأ مع الرئيس المتفاجئ بـ «الربيع العربي» من خريف نظرياته أو تخاريفها... الصراع السني ـ الشيعي عمره قرون ولا يمكن للولايات المتحدة حله بين ليلة وضحاها. طبعاً لسنا من الطيبة لنعتقد أن أوباما مهتم كثيراً بأحوال السنة والشيعة وأنه سيشكل لجاناً شرعية لمعرفة الفروقات الشكلية والجوهرية بين المذاهب الإسلامية ثم سيوسع عمل اللجنة للبحث في الفروقات بين المذاهب السنية نفسها أي بين الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي مثلاً، وبين الاجتهادات داخل المذهب الشيعي نفسه بين من يتبع ولاية الفقيه وبين من يتبع مرجعية النجف وبين من يتبع مثلاً مرجعية الراحل السيد محمد حسين فضل الله. ... لسنا طيبين حقيقة لنعتقد ذلك إنما نحن بالطبع متوجسون من هذا الطرح لأنه يبدو مقدمة لأمور أخرى، فخلال الربيع العربي الذي أعلن أنه فوجئ به قال أوباما ما معناه إن اكتشافات النفط الجديدة أميركيا ستعطي رسالة إلى أنظمة الخليج حول شكل الحكم الذي يجب أن يكون، أرفقها بحديثين عن التطرف السني والتطرف الشيعي وأيهما أهون، ثم قال عندما انفتح على إيران إنها دولة عاقلة لا تريد أن تنتحر. هل الصراع فعلاً عمره قرون بين السنة والشيعة؟ كلام أوباما يذكرني بكلام زعيم «جبهة النصرة» التابعة لـ «القاعدة» عندما قال في مقابلة نادرة إن جوهر الصراع الفعلي هكذا وعمره 1400 سنة. إذا كان الرئيس الأميركي يقصد الخلافات حول الخلافة وما صاحبها فعمرها الزمني معروف ولم تكن تسمى خلافات بين سنة وشيعة ولم تكن هذه التسميات موجودة في الإسلام. إنما الصراعات مثلاً داخل الدولة الأموية نفسها والدولة العباسية نفسها كانت أشرس وأطول زمنياً بكثير من تلك المرحلة التاريخية في عمر الإسلام، أقصد مرحلة الخلافة. فهل نقول عن صراعات تلك المرحلة الطويلة بأنها كانت صراعات سنية – سنية في العهدين الأموي والعباسي؟ أو صراعات شيعية – شيعية داخل الدولة الفاطمية؟ وهل كانت المنطقة في القرنين الماضيين (ولن أتحدث عن قرون كما فعل أوباما) تشهد فعلاً صراعاً سنياً – شيعياً؟ إذا كان هناك من يعرف شيئاً لا نعرفه ولم ندرسه ولم يعرفه آباؤنا وأجدادنا فليقله لنا. كنا نعرف أن حروباً أوروبية، تلتها حربان عالميتان، تخللها أبشع الانتهاكات الإنسانية انعكست على مناطقنا، وصاحبها صراع نفوذ ووضع يد واحتلال وانتداب واستعمار فولادة إسرائيل فحركات تحرر واستقلال وحروب مع إسرائيل مستمرة حتى اليوم. كل شيء أساسه سياسي ويريدون لهذه المنطقة غصباً أن تحوله إلى لبوس ديني. نترك التاريخ ونصل إلى المرحلة الراهنة. قد يقول قائل إن ميليشيات شيعية لبنانية وعراقية وإيرانية تقاتل في سورية مع النظام وهوليس سراً، لكنها تقاتل لسبب سياسي أكثر منه ديني حتى لو تم غسل عقول هؤلاء المقاتلين بشعارات دينية لزوم التعبئة والحشد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفصائل السنية أو «الجهادية». إنما لنتوقف عند قتال «داعش» للجيش الحر و«النصرة» مثلاً فهل نسميه صراعاً سنياً - سنياً وهل عمر امتداداته يعود إلى صراعات الحكام الأمويين أو العباسيين؟ قتال النصرة والأحرار هل هو صراع سني - سني وامتداداته تعود إلى صراعات ملوك الأندلس؟ الجبهة الإسلامية في الجنوب وفصائل أخرى منضوية إلى الجيش الحر والنصرة هل هو صراع سني - سني؟ القتال سابقاً بين «أمل» و«حزب الله» في لبنان وبين ميليشيات الصدر وعصائب أهل الحق مثلاً المنشقة عنها أو بعض قوات المجلس الأعلى في العراق هل هو صراع شيعي – شيعي وكم عمر امتداداته؟ وهل يعود إلى خلافات العصر الفاطمي؟ ومن تشخيص أوباما العظيم الذي يشي بأن صراعات المنطقة يمكن أن تتجه حصراً إلى التصنيف المذهبي... إلى الأسباب الكاذبة والمخادعة لنمو التطرف حيث يقول إنها اقتصادية ديموغرافية فقط غذاها الإنترنت. أما ظلم العالم لأهل فلسطين وانحيازه الأعمى لكيان غاصب وتغاضيه عن جرائم الإبادة التي قام بها فلا علاقة لها بالتطرف. واستراتيجية إنهاء الحرب الباردة بإسقاط الاتحاد السوفياتي في أفغانستان بأجساد المجاهدين وأفكار المجاهدين فلا علاقة لها بالتطرف، وكيل العالم بمكيالين مع مطالب العرب والمسلمين حيث يدفع بكل قوته لتغيير هنا إذا تم قطع الإنترت ويتغاضى هناك عن مجازر بشرية حقيقية فلا علاقة له بالتطرف. لم نعرف صراعاً سنياً – شيعياً يا سيد البيت الأبيض لمدة قرون بالمعنى الذي قصدته ولا نريدك أن تتعب نفسك في حله. عند أواخر سبعينيات القرن الماضي ومع تطورين تاريخيين في المنطقة هما الثورة الإيرانية وحرب أفغانستان بدأت المسائل تتمدد رويداً رويداً في الاتجاهات التي تحدثت عنها. وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يكون «الإرهاب السني» اليوم «جهاداً محموداً» أمس فارجع إلى أرشيفك لتعرف ما قيل بعد لقاء ريغان مع وفد طالبان في البيت الأبيض، وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يصبح «الإرهاب الشيعي» أمس حراكاً محموداً اليوم بعد الحوار مع إيران وحديثك عن الدولة العاقلة فارجع أيضا إلى أرشيفك لأنك قد تغير وجهة نظرك بعد أقل من عقد. نحن لن نعود إلى أرشيفنا لأننا لم نكتب كل ما فيه ولم نحفظه وحدنا. غيرنا كتب الكثير واعتنى بطريقة حفظه كي يعرف كيف يخرج المعلومات حسب ما يرتئي ويريد في الزمان والمكان اللذين يختارهما... سنعود إلى ذاكرتنا فقط، وهي ذاكرة لم تمحها حاملات الطائرات وصواريخ توماهوك، ونقول لأبناء جلدتنا الذين يستلون سيف الطائفية إن العار سيكللهم لأنهم يتقاتلون في حفرة مساراتها الدنيا مفتوحة والعليا مغلقة، ونقول للمستر أوباما إن إسرائيل يجب أن تنصب لكم تمثالاً ضخماً في أكبر ساحاتها لأن أحوال المنطقة العربية في فترتي حكمكم كانت الأسوأ على الإطلاق لنا والأكثر إراحة لها. قديماً نقل عن وزير إسرائيلي أن بلاده تنتصر عندما يصبح كره العربي للعربي أكثر من كرهه لها، واليوم ربما هناك في أميركا من يعتقد أن «الوحش» الذي ساهمت «سي آي اي» في خلقه لن يموت أو يضعف إلا بإشغاله بـ «وحش» آخر في منطقته. رسالتك يا مستر أوباما عن الصراع السني – الشيعي وصلت وليتك تستريح... وتريح. *من جريدة الراي الكويتية