على رأس الأزهر عالمٌ عظيم وإمامٌ جليل.. وفى أروقة الأزهر علماءٌ ودُعاة يمتلئون بقوة المعرفة وسمّو الخُلُق. لكن الأزهر العظيم الذى يضمّ إمامًا وأئمة ومأمومين أجلّاء.. بات يواجه تحدياتٍ تحاول تهديد موقعِه التاريخى، باعتباره المؤسسة الإسلامية الأولى فى العالم. ( 1 ) يجب الاعتراف ابتداءً أن عددًا ممن دخلوا المؤسسة الرفيعة لا يملك ما يكفى من المعارف والقيم. وأن عددًا ممن ارتبطوا بجماعات الإسلام السياسى قد تحصّل الكثير من الشهرة والمال، دون أن يتحصّل القليل من الفقه والعِلم. يجب الاعتراف كذلك أن أعدادًا كبيرة ممن يلتحقون بالتعليم الأزهر ى، أو يواصلون فى دائرة الأزهر.. هم مجرد أعداد تبحث عن شهادة ووظيفة.. دون تقدير لأىّ مكانة أو رسالة. وتمثل هذه الأعداد حشوداً عاديّة دخلت بضغوط العائلة، لأسباب تتعلق بقُرب المعهد الدينى، أو توافر المواصلات، أو بسبب الاعتقاد السائد ببساطة التعليم وسهولة الامتحانات وضمان التخرج. ومن غير المتصور أن ينتظر أحدٌ من هذه الأعداد أن تؤدى أىّ دورٍ بارز فى شؤون الدين أو الدنيا.. ذلك أن ضحالة المستوى، وضعف اللغة، وكراهية القراءة، واحتقار البحث.. هى سمات غالبة. (2 ) يجب الاعتراف- ثالثًا- أن الصورة الذهنية الشائعة للتعليم الأزهر ى هى أنه «التعليم الثالث».. ذلك أن التعليم العام الأجنبى هو «التعليم الأول» والتعليم العام الحكومى هو «التعليم الثانى». ويتعامل المجتمع باستمرار باعتبار أن كفاءة وجودة التعليم الأزهر ى تأتى تالية للتعليم العام الحكومى.. وأن العائلات الأكثر جديّة والتلاميذ الأكثر طموحًا يتجهون إلى التعليم العام.. لا التعليم الأزهرى. يجب الاعتراف- رابعًا- أن ضعف التعليم العام قد ساعد فى ضعف المنافسة.. وهبوط الطرفيْن.. حيث أصبحت الضحالة والركاكة سمة عامة للتعليم والمتعلمين فى مصر. وبدلاً من أن تصعد جودة التعليم الأزهر ى إلى التعليم العام.. هبط التعليم العام إلى التعليم الأزهرى.. ليلتقى الاثنان عند المنخفض.. ولتهبط القوة الناعمة المصرية من أعلى الجبل! يجب الاعتراف- خامسًا- أن الدولة لم تكن جادة فى أى لحظة فى دعم الأزهر أو تقوية مكانته. كانت المؤسسات السياسية تنظر إليه بعين الريبة والشك وترى فيه «الخطر المحتمل» و«العدو الذى يجب أن يبقى نائمًا». ولقد أعطت نظرة الدولة هذه فرصةً ذهبية لجماعات الإسلام السياسى من إخوان وسلفيين للعمل على ملء الفراغ وقيادة الخطر! ( 3 ) وعلى الرغم من ذلك.. لم تتمكن جماعات الإسلام السياسى من الأزهر ، وظلت محدودة فى المكان والمكانة.. لكن سطوة هذه الأقلية فى الحياة العامة قد توازى مع سطوتها على الخطاب الدينى.. من أجل أن تعلو «ثقافة الزعيق» على «ثقافة المعرفة»، وأن يغلب «الهتاف» على «الحوار».. وأن يسطو «صوت الجهل» على «صوت الأزهر»! نجح الأشقياء لبعضِ الوقت.. غطّت «المظاهرات» على «المحاضرات».. وانتصر «التصفيق» على «الإدراك».. وأصيب ملايين المسلمين حول العالم بالصدمة وهم يشاهدون أحداثًا متفرقة فى جامعة الأزهر .. طلابًا وطالبات.. يقتحمون ويشتبكون، يحرقون ويكذبون، يشعلون النار فى المبنى والمعنى، ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً. وبات المسلمون فى مصر وخارجها يتساءلون فى قلق: الأزهر .. أين؟ وإلى أين؟.. ومن الذى يتحدث باسم المليار مسلم؟ ( 4 ) جاءت الثورة الحضارية فى الثلاثين من يونيو 2013.. لتعيد ما انقطع من التاريخ.. وليتأكد إيمان الدولة، وللمرة الأولى منذ عقود، بأهمية الأزهر .. جامعًا وجامعةً، كركيزة أساسية فى القوة الناعمة لمصر.. وركيزة أولى فى القوة الناعمة للإسلام. (5) يبلغ عدد المسلمين فى العالم (1.6) مليار نسمة، وقد جاءت موجات الإسلام السياسى، ثم موجات الإرهاب الأسود.. لتضرِب المسلمين بالمسلمين.. وتُخرِج القوى العظمى من بينهم سالمين. جاءت موجات الإسلام السياسى.. لتضيف إلى الواقع البائس للمسلمين.. مشاهد الذبح والرِّق، المشافى والمساجد، ثم لتصل بالدراما السوداء إلى مدى مثير.. حيث نسف الجنازات وقتل المشيعين! (6) وبعد عام من «خلافة داعش الأمريكية».. سقطت الموصل ثم الرمادى فى العراق.. وسقطت الرقة ثم تدمر فى سوريا. ومن الممكن أن تمتد داعش التى تحتل نصف سوريا والعراق.. لتصل إلى دمشق وبغداد فى عامها الثانى. هكذا يمكن أن تسقط عاصمة الخلافة الأموية، وعاصمة الخلافة العباسية.. تحت قبضة «الخلافة الأمريكية»! (7) وسط ذلك كله.. يشعل الغرب حربًا مذهبية.. تمضى من دركٍ إلى أسفل.. لتصبح خريطة الإسلام فوضى من جماعات الإسلام السياسى السنيّة وجماعة الإسلام السياسى الشيعية.. وكل جماعة تلعن أختها! هنا التحديات التى يواجهها الإسلامُ دينًا ودنيا.. وهنا المحنة التى تواجهها المؤسسة الإسلامية الأولى فى العالم. (8) اليائسون لا يبنون وطنًا ولا مستقبلاً.. والمحبَطون هم عبءٌ على أنفسهم وعلى الآخرين.. وصناعة الأمل هى الصناعة الأمّ فى العصر الحديث. يمكن للأزهر أن يعيد الهيكلة الوظيفيّة والفكرية.. ويمكنه أن يعيد ترميم الداخل قبل الانطلاق إلى الخارج. ويمكنه كذلك أن يقدم أجيالاً جديدة من الدعاة.. وعلماء جددًا فى الفقه والتفسير والحضارة.. ويمكنه أيضًا أن يواصل ما ابتداه الإمام الأكبر من تنظيم وتفعيل الرابطة العالمية لخريجى الأزهر . وإذا كانت هناك أعدادٌ كُثْر للتطرف والجهل، فإن الأكثرية الساحقة هى مع الاعتدال والاتزان. وإذا كان هناك من دعم لدعاة جهنم، فإن أكثر من مليار مسلم جاهزون لدعم الحكمة والموعظة الحسنة. وإذا كانت القوة الصلبة للغرب ساعدت القوة الغاشمة للتطرف.. فإنه يمكن هزيمة الاثنتيْن معًا.. بالقوة الناعمة للإسلام. حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر نقلا عن صحيفة "المصري اليوم"