في لقاء للسيد إياد علاوي، نائب رئيس الجمهورية العراقية، والرجل الذي خبر السياسة وعرف دهاليزها، سأله سائل: «أين الاعتدال الشيعي؟»، فقال: «الاعتدال الشيعي يخشى التطرف الشيعي، والاعتدال السُني يخشى التطرف السُني». استوقفتني هذه العبارة العميقة، فبجانب عمقها وشجاعتها، فإننا في هذه المرحلة من التاريخ الحديث وقعنا في مصيدة «التطرف الطائفي بشقيه»، لا لسبب إلا لأن الشجاعة قد فارقت البعض منا لتسمية الأشياء بأسمائها والبناء على الشيء مقتضاه، من خلال الجهر بالشجب وتقديم البديل، لأن التطرف هو حاضنة الإرهاب الدافئة. نحن أمام صراع محتدم يميني التوجه، بين «يمين شيعي» مدعوم من دولة هي إيران وجماعات عربية أهلية، و«يمين سني» مضاد مدعوم من قوى ما دون الدولة، بعضها منظم وآخر عشوائي. لو نظرت إلى الساحة التي يجري فيها الصراع لوجدت هذين القطبين يحاولان التسيد، ويستخدمان تقريبا الشعارات نفسها في حرب «دول الاستكبار ومناصريها»، سعيا وراء التحشيد وجلب الأنصار. أصبح توظيف «الجذر الطائفي» من أجل حمل الكثيرين على التعصب والتعصب المضاد، لتحقيق مشروع في جملته لا تاريخي، هو السائد. السبب الأكثر رواجا في انتشار التعصب غياب الرغبة في بناء تحالف واسع للاعتدال العربي على قاعدة مواصفات الدولة الحديثة، والنظر إلى الأمور بعين العقل لا العاطفة. لدينا في هذه المنطقة أكثر من لاعب يستخدم التطرف بشقيه، وهؤلاء اللاعبون كل يريد من طرفه أن يفرض وجهة نظره السياسية، وطريقته في الحياة على الآخر، على أنها الطريقة المثلى للعيش، ويستخدم «أسلحة» فتاكة لتوسيع مشروعه، تسمم المجتمع ككل، وليس أكثر فتكا من سلاح الطائفية، لأنه يمزق الأوطان وينثرها أشلاء. كثير من مروجي المشروع لهم مصالح شخصية وأجندات عابرة للأوطان، على سبيل المثال «داعش»، حزب الله، الحوثيون، وعدد من الجماعات الأخرى. المشروع الإيراني يرى أن فكرته عن الدولة التي يجب أن تسود هي فكرة «دولة ولاية الفقيه». يسوق المشروع أنه «مناصر للمستضعفين». الاعتراض أن هذا المشروع المتعثر في بلده يراد له أن يسود في أماكن لا تقبله، وهي المناطق العربية، كما يفعل «داعش» بأجندته القروسطية وعنفها الدموي، والتي لا تتطابق مع العصر. كلاهما يخلط المذهب بالسياسة. الفكرة التي يقف عليها الطرفان اليمينيان (الشيعي والسني) للانطلاق لأهدافهما السلبية والإفادة من الفراغ الذي أحدثته الفوضى، هي دق إسفين ذهني بأن «المذهب الشيعي» يختلف جذريا عن «المذهب السني» والعكس صحيح. متى ما ترسخ هذا الرأي في الذهن العام واشتراه عدد كبير من البسطاء، سَهل بعد ذلك للأجهزة المختلفة، الإعلامية أو السرية، توظيفه والاستفادة منه، لتحقق مغانم سياسية، لها علاقة بالمشروع القومي من جهة، وهدم الدولة من جهة أخرى، أكثر مما لها علاقة بمشروع بناء الدولة الحديثة. أبناء اليوم يعتقدون أن الخلاف السني - الشيعي هو قدر لا فكاك منه. وإن كان ذلك أمرا صحيحا فلماذا تعايش الجميع لقرون طويلة؟ وظهر دعاة يؤكدون أن الخلاف أساسه سياسي، ذهبت في التاريخ أسبابه الموجبة، وأكثر ما بقي منه هو اختلاف في الفروع وفي الممارسة، وفيها من الجوامع الكثير، بل إن المدارس الفقهية الإسلامية في داخل المدرسة الواحدة لها من الاجتهادات في الفروع ما يميز واحدة عن أخرى. الاختلاف الطائفي في منطقتنا ليس تاريخيا بمعنى تجذره، فتلك مغالطة وجب التنبيه لها. العديد مثلا من القبائل العراقية في يومنا هذا جزء منها سني وجزء آخر شيعي، وهم أبناء عمومة وبينهم علاقة دم. إسقاط الحاضر على الماضي ومحاولة دمجهما بصرف النظر عن مرور الزمن من جهة، وتغييب الأحداث المضيئة في تاريخنا الإسلامي الموحد من جهة أخرى، هو ما يجعل البعض يعتقد خطأ أن الاختلاف يستوجب لا القطيعة فقط، ولكن الاحتراب أيضا. الإيمان بأن الجميع مسلمون من جهة، وقبول التعددية الفكرية في الإطار العام، وقبول الحقيقة بأن هناك خلافا سياسيا على مصالح لها علاقة بالسلطة والسلطان من جهة أخرى، ينقل الصراع الذي هو محرك التاريخ للإنسانية من مستوى غير عقلاني «مذهبي» إلى مستوى عقلاني مصلحي، ينظر فيه إلى التكلفة والمردود والربح والخسارة، وليس إلى المغالبة والاستقواء والاستحواذ والتهميش، فمن هو الضامن الحقيقي للجنة؟ لا بشر يستطيع أن يضمن ذلك، الله رب الجميع يحكم بينهم.. «فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون». استخدام الطائفية في العقود الأخيرة أصبح جزءا من أدوات السياسة الخارجية، وهو ينعكس بالضرورة على النسيج الاجتماعي الداخلي لبلدان تعددية المكونات بشكل سلبي. إلحاق جزء من هذا التعدد بالدولة «المستخدمة» لهذه الأداة يخرج هذا المكون أو ذاك من المواطنة، ويُلجئه إلى الاستتباع، وتُدمج في الصيرورة المخاتلة تلك الكثير من الشعارات على أن الإلحاق له أهداف «وطنية»، كالقول بمحاربة إسرائيل، أو القول برفع الغبن، أو غير ذلك من الشعارات من أجل تسويقها للبسطاء. إنه نقل الهوية المذهبية إلى البعد السياسي. فدمج الاجتهاد المذهبي بالسياسي ينشئ في مجتمعاتنا نبتا خطيرا وغير إنساني هو التقوقع داخل الدائرة الواحدة التي لا تتقاطع مع غيرها، وهو ليس تعددية بالمفهوم الحديث، فالتعددية في المجتمع قابلة للتداخل والانتقال، أما المذهبية فهي حلقة موصدة على أهلها. ذاك ليس إنسانيا ولا تاريخيا، عندما تصبح في المجتمع الواحد دوائر مغلقة على نفسها، تظن أن ما هي عليه هو الصحيح، وما عليه الآخرون هو الباطل، فتصبح الطائفية خارج التاريخ سواء كانت سنية أو شيعية أو أي فرقة أو لبوس لبست، لأنها بذلك تحرم تنوع الآراء من الظهور لصوغ حلول للمشكلات التي تواجه المجتمع ككل. الجسر العابر للطوائف هو المشترك، ويمثله عاملان في الحال العربي في عصرنا الحديث: المواطنة (الدولة الوطنية)، والعروبة، أي الهوية المشتركة الجامعة والعابرة للطوائف. كلتاهما حبل جامع لهذا الشتات الذي يراد لنا أن نغوص في تيهه، من داخلنا أو خارجنا، وأن نضيع في دهاليزه إلى درجة الاحتراب. في عصرنا لم تعد الأقلية هي المجموعة الأصغر في المجتمع، ولا الأغلبية هي المجموع الأكبر في المجتمع، هناك أدوات أخرى تقاس بها الأقليات والأغلبيات في عصرنا، منها النفوذ السياسي ومنها القوة الاقتصادية أو التفوق العلمي. دليلنا على ذلك النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة، لكنه ليس الدليل الوحيد، فعصرنا يتغير، كما يطيح بمفاهيم قد عفّى عليها الزمن. التصدي للتصدعات التي تهز كيان الأمة هو الحزم في رفض علني لكل من اليمينين وكل ما يرتكنان إليه من تبرير، ولعل ذلك ما نراه الآن من حراك في المجتمع المدني العربي في العراق والأردن وغيرهما من البلدان. آخر الكلام: الحصافة التي أدارت بها الدولة السعودية نتائج الاعتداء الأخير على الموطنين في قرية القديح في القطيف، تعني أن أساس الانتماء هو المواطنة، وأن الدولة معنية بسلامة كل المواطنين.