استخدم أردوغان كل ما يستطيع في الدعاوى الانتخابية (تجري غداً) كي يضمن غالبية مطلقة تتيح له تعديل الدستور وتكرسه سلطاناً جديداً لا تقيده القوانين. التحضير لتولي هذا المنصب بدأ منذ تسلم حزبه السلطة عام 2002، إذ اصطدم بالجيش الذي كان «حامي العلمانية» أكثر من مرة، واستطاع تجاوز كل العقبات التي وضعها العسكر في طريقه. أبعد معارضيه «الشرسين» من القيادة بتهم كثيرة، منها تدبير مؤامرتين لإطاحته لأن حزبه إسلامي، وقضت المحاكم بسجن عدد كبير من الضباط، لكن محكمة الاستئناف برأت غالبيتهم. لم يكتف الرجل بذلك، بل أقال المدعي العام وقادة في الشرطة والأجهزة الأمنية للتخلص من تأثير حليفه عبدالله غولن، وهو إسلامي آخر مقيم في الولايات المتحدة، أسس آلاف المدارس، وكان صاحب نفوذ كبير، خصوصاً في أجهزة الأمن الداخلي والقضاء الذي أصبح أداة طيعة في يد «السلطان» فسجن عشرات الصحافيين والسياسيين المعارضين. هذا بعض من تحضيرات «السلطان» في الداخل. أما في السياسة الخارجية فلم يتأخر في دعم «الربيع العربي» بالسلاح، خصوصاً في سورية، ولم يعد سراً أن الاستخبارات التركية كانت، وما زالت، تهرّب السلاح إلى حلفائه، مثل «جبهة النصرة» و»داعش» ومنظمات إسلامية أخرى، ففضيحة الشاحنات الثلاث التابعة للجهاز والتي أوقفتها قوات الأمن محملة أسلحة، ودفاعه عن الحادث واعتباره كشف الأمر أمام الرأي العام «خيانة وطنية»، وادعاؤه على صحيفة «جمهورييت» التي نشرت الوثائق، كل ذلك ما زال الشغل الشاغل لوسائل الإعلام. وفي سورية كان التحضير لعصر جديد و»سلطان» جديد يرتكز إلى الماضي فلتركيا أطماع معروفة في حلب وإدلب، وأصبح لديها الآن مواقع نفوذ وسط المسلحين، خصوصاً الإسلاميين، فضلاً عن نفوذها على المستوى السياسي في أوساط النخبة المعارضة ( منهم رئيس «الائتلاف» خالد خوجة الذي يحمل الجنسية التركية) وعدد آخر من قياديي «الإخوان المسلمين» و»العلمانيين» وغير العلمانيين الذين يتلقون السلاح منها أو عبرها، وترفدهم بـ «الجهاديين» القادمين من كل أصقاع الأرض. أما في العراق، فلا يخفى سعي أردوغان إلى إضعاف السلطة المركزية، مرة عبر إقليم كردستان (زيارات داود أوغلو للإقليم من دون علم بغداد معروفة)، ومرة عبر التهديد بالوقوف في مواجهة أي محاولة لاستعادة الموصل من سلطة «داعش». وللرجل في هذا البلد نفوذ أيضاً، على الأقل وسط التركمان و»الحزب الإسلامي» (الإخوان)، ويتطلع إلى أن يكون «سلطاناً» في الوسط السني كي لا يصطدم بإيران، ذات النفوذ في الوسط الشيعي، في وقت مبكر. وبعيداً من المحيط العربي المباشر، أوضح رد فعل أردوغان على إطاحة محمد مرسي أنه كان يخطط ليكون رئيس مصر والياً ينفذ ما يطلبه منه، من دون نقاش، باعتباره الأخ الأكبر أو «الخليفة»، وما زالت علاقاته بالقاهرة متوترة حتى الآن. ولا ننسى مشاركته في الحرب على ليبيا، ودعمه المستمر للإسلاميين هناك. لكن أردوغان يدرك تماماً أن الطريق إلى الخلافة ليست معبدة، ويدرك أن عليه خوض معارك داخلية وخارجية كثيرة قبل أن يحقق بعضاً من أحلامه، ولا يهم إن كانت هذه المعارك ستكلف رعايا «الخلافة» الكثير من الدماء والدمار فالماضي المجيد لا تعيده الأحلام وحدها. ولربما كان احتفال مئات الآلاف من الأتراك، الأسبوع الماضي، باستيلاء العثمانيين على القسطنطينية قبل أكثر من 550 عاماً، والهتافات والأدعية لأردوغان خير دليل على أنه استطاع إيجاد أرضية صلبة في الداخل لإعلان نفسه «سلطاناً» جديداً بعد الانتخابات، إذا حصل على أكثرية نيابية تؤهله لذلك، وعندها سيتحرك في الداخل والخارج بحرية أكثر، وستكون الحريات والعلمانية في خطر، ليس في تركيا وحدها بل في المحيط أيضاً. ماضي تركيا المجيد كرّس التخلف في بلادنا وحاضرها الزاهر يغرقنا في المستنقع الآسن.