تقدّر منظمة "فريدم هاوس"، وهي من المنظمات غير الحكومية، ومقرها العاصمة الأمريكية واشنطن، وتجرى أبحاثا لمناصرة الديمقراطية، أن ما يقرب من ثلثي سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة مستبدّة، وأن ملياري شخص يعانون من حكم قمعي. وحسب تلك المنظمة، يوجد 106 نظام حكم دكتاتوري أو شبه ديكتاتوري في عالمنا اليوم، أي ما يعادل 54 في المئة من الدول على كرتنا الأرضية. في المقام الأول، لم تتغير العوامل المسببة لقيام الأنظمة الديكتاتورية عبر قرون من الزمن. وغالباً ما يربط المواطنون الذين يعيشون في بلدان ديمقراطية بين الأنظمة الديكتاتورية وبين القمع وانتهاك حقوق الانسان والفقر والاضطرابات وفي الواقع، تسببت الأنظمة الديكتاتورية في موت أعداد لا تحصى من البشر، بما في ذلك 49 مليون روسي لقوا مصرعهم إبّان عهد "جوزيف ستالين"، وما يقرب من ثلاثة ملايين كمبودي لقوا حتفهم في عهد "بول بوت". يقول بروس بوينو دي مسكيتا، أستاذ العلوم السياسية بجامعة نيويورك: "عندما تعتمد على دعم قلة قليلة من الناس للبقاء في السلطة، فإن الوسيلة الفعالة للحكم تكون عبر إحلال الفساد والرشوة والابتزاز، وإنتزاع الأشياء بالقوة وما شابه ذلك. تستطيع أن تبقي على ولاء مجموعة صغيرة وذلك بأن تدفع لهم بإسراف." وعند وضع هيكل مثل تلك السلطة في الاعتبار، فإن الديكتاتور الذي يريد أن يبقى على رأس الهرم، لا يعمل نيابة عن أكثرية المواطنين، بل يعمل لمنفعة حفنة من الناس. وتاريخياً، كان الديكتاتور دوماً رجلاً يعتمد على هذه الحفنة ليواصل قمعه. تقول "ناتاشا إزراو"، وهي محاضرة في العلوم السياسية بجامعة "إيسّيكس" البريطانية، إن أغلب الخبراء الذين يدرسون الدكتاتورية يبدأون ذلك بتعريف بسيط: أنه يمكن لنظامٍ إستبداديٍّ أن ينشأ حول شخص ما، أو حزب واحد أقام حكمه، أو طغمة يقودها العسكر. ويضيف بوينو دي مسكيتا قائلا: "السلوك الأخرق للطغاة لا ينبع من حالة مرضية فطرية في شخص ما، أو سوء الحظ لوجود قادة مريضين نفسياً. فالكيان السياسي هو الذي يولّد تلك السلوكيات." يحدد الباحثون مشكلة مشتركة أخرى ترتبط بالأنظمة الشمولية. فالطغاة يشتركون في مجموعة صفات شخصية مشؤومة. لعلهم يحملون معهم أوهاماً بسطوة لا حدود لها، إضافة إلى خصائص مثل الوسامة، والمجد والشرف، والهيمنة المقترنة بنقص التعاطف معهم. يقول ستيفن بينكر، أستاذ علم النفس بجامعة هارفرد: "يُحتمل أن تناشد متطلبات منصب الطاغية أكثر الخصال الشريرة في جنسنا البشري، وعلى الأخص النرجسيين." هكذا، يظهر أن العيش في ظل نظام ديكتاتوري يحمل في طياته مساويء عديدة. يقول المؤرخ بجامعة "إكستر" البريطانية ريتشارد أوفيري: "مُنح شخص منفرد مثل ’يوليوس قيصر‘ سلطات واسعة عند مواجهة شعبه للأزمات. كان من المفترض أن يتخلى عن تلك الصلاحيات حال إنتهاء أية أزمة. إلا أنه لم يكن في العادة متحمساً جداً للتخلي عنها." إن العديد من الأنظمة الديكتاتورية المعاصرة والحديثة –مثل تلك التي أقامها أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، على سبيل المثال لا الحصر- قد أُنشأت أيضاً وقت الاضطرابات. ويحتمل أن تقام ديكتاتوريات في المستقبل على هذا الأساس أيضاً. يقول أوفيري: "خلال القرن القادم، ستحصل أزمات حادة. لا أعتقد أننا قد رأينا نهاية عهد الديكتاتوريات أكثر مما شاهدنا نهاية الحرب." يقول بوينو دي مسكيتا: "عندما تعمل في نظام اقتصادي يديم إنهيارك، يسري القلق في نفوس الذين يدعمونك، ولن تقدر على القيام بشيء لتبدد مخاوفهم. لذا، فإنهم يبدأون في البحث عن بدائل." تؤدي مثل هذه الظروف إلى قيام الانقلابات العسكرية، غير أنه لا تظهر على بعض الأنظمة الاستبدادية أية مؤشرات تدل على الوهن والتصدع. تقول إيريكا تشينويث، الأستاذة المساعدة في الدراسات الدولية بجامعة دينفر: "ما نراه الآن على الأغلب عبارة عن أنظمة استبدادية متينة للغاية. تلك التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا قد أتقنت بنيان النظام." على سبيل المثال، بعض الحكومات الأفريقية والشرق-أوسطية، التي ينطبق عليها تعريف الدكتاتورية، ثرية بما يكفي لتمويل إستمرار وجودها. ففي الشرق الأوسط، لم يكن عليهم ضغط خارجي ليدفعهم صوب الديمقراطية لأن أنظمتهم مستقرة، والآخرون يريدون منهم البقاء على حالتهم المستقرة." السبب الآخر الذي يجعل احتمالية بقاء بعض الأنظمة المستبدة على حالها ونشوء غيرها هو أن الديمقراطية، بخلاف ما هو بديهي، تشجع على ذلك. يقول بوينو دي مسكيتا: "للناس مفهوم ساذج بأن الأنظمة الديمقراطية تهتم بتشجيع الديمقراطية. لكن هذا مخالف للحقيقة، ولسبب وجيه." ويقول موضحاً إن الوظيفة الأساسية لقادة الأنظمة الديمقراطية هي تطبيق سياسات يستفيد منها الناخبون في الوطن، وليس في بلد آخر. وبما أن قادة الأنظمة الديكتاتورية يحتاجون إلى استرضاء المقربين إليهم، فإننا غالباً ما نجد قادة البلدان الديمقراطية وهم يقومون ببساطة بدفع الطغاة ليقوموا بما يريدون منهم. إنها حالة يكون فيها الجميع رابحين. فالحاكم الديكتاتوري يحتاج إلى السيولة النقدية. أما الزعيم الديمقراطي، فإنه يحتاج إلى سياسات تقنع الناخبين في وطنه. لذا، وبينما يكون من المستحيل التكهن بالدولة التي سينشأ فيها نظام استبدادي، والفترة الزمنية التي ستدوم فيها، فمن المؤكد أنها ستظل معنا دوماً. "أعتقد أن كل بلد معرض الى حد ما ليصبح نظاماً دكتاتورياً"، حسب قول تشينويث. ليس هناك ما يبرهن على أن التعطش للحرية والديمقراطية هو من الطبيعة الفطرية للبشر، حسب قول "إزراو". ما دام مستوى المعيشة عالياً ويتاح للناس أن يعيشوا حياتهم مثلما يعجبهم، يمكن للمواطنين أن يعيشوا سعداء في ظل نظام استبدادي. حتى إن بعضهم يحنّ إلى النظام المستبد بعد زواله.